موسوعةالأخلاق الإسلامية-نصوص مشروحة تشتمل على جوانب أخلاقية (16- فيمن يأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويأتيه)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-نصوص مشروحة تشتمل على جوانب أخلاقية (16- فيمن يأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويأتيه)
155 0

الوصف

                                                    نصوص مشروحة تشتمل على جوانب أخلاقية

                                               16- فيمن يأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويأتيه

16- فيمن يأمر بالمعروف ولا يأتيه وينهى عن المنكر ويأتيه

روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه.

هذا الحديث يبين حال معذب بسيئاته من معذبي نار جهنم، يؤتى به يوم القيامة، فيلقى في النار على طريقة القذف المذل المهين، فيصطدم بما في النار اصطدامًا عنيفًا يحطمه ويشق بطنه، فتندلق أقتاب بطنه، أي تخرج أمعاء بطنه بتتابع سريع، فتلمس شدة العذاب. إنها أمعاء كان يأكل فيها الأموال باسم الدين، ويحشوها حشو الجشعين، ويتعاظم بها تعاظم المترفين، فإذا رآها مندلقة أمامه طار صوابه وتعاظم عذابه، وتراكبت عليه الذلة، فيدور في النار كما يدور الحمار في الرحا، فرارًا مما يلاقيه من عذاب، ولكن أين المفر؟ إنه يفر فيجد نفسه يدور فيعود إلى المكان الذي فر منه، وهكذا تكون صورة عذابه.

ويرى الناس الذين كانوا يشاهدونه في الدنيا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهم منغمسون في معاصيهم، غير مكترثين بموعظة منه ولا تذكير، وقد كان يتعاظم عليهم في الدنيا بفضل العلم وبفضل التقوى التي كان يرائي الناس بها، فيناله الخزي، فيخفض رأسه ويغمض عينيه، فتكون صورته في كل ذلك كصورة الحمار الدائر في الرحا، بدورانه وذلته وإغماض عينيه، ولكن العصاة الذين كانوا يرونه في الدنيا واعظًا مرشدًا يعجبون لأمره، فيأتون إليه فيقولون: يا فلان ما لك؟!. ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. إذ كنت عالمًا بالحلال والحرام، عارفًا بشرائع الله، متصديًا لمهمة التوجيه العام، والأمر بوجوه الخير والنهي عن وجوه الشر، فما الذي دهاك فرماك بهذا العذاب المهين؟

فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه.

إن هذا العذاب الذي يناله هذا الفريق من الناس هو نتيجة المقت الرباني الذي يحل بالذين يقولون ما لا يفعلون، وإنه لكبر مقتًا عند الله أن يقولوا ما لا يفعلون. قال الله تعالى في سورة (الصف 61):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ (3))

وقد استنكر الله هذا الخلق من اليهود أشد الاستنكار، فقال سبحانه وتعالى في سورة (البقرة 2):

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44))

هذا التباين بين ما يدعو الإنسان إليه من فضائل، وبين ما يعمله في ذات نفسه ويمارسه من سلوك، تباين يتنافى مع الفضيلة الخلقية.

لأن هذا الإنسان إما أن يكون مؤمنًا بما يدعو إليه، أو غير مؤمن، فإن كان غير مؤمن بما يدعو إليه، فهو إذن كاذب مراءٍ منافق، قد اتخذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صناعة من الصناعات، يستدر منها مالًا أو جاهًا أو أي عرض من أعراض الدنيا لنفسه، والكذب والرياء والنفاق من أقبح رذائل الأخلاق، لذلك فهو يستحق هذا العقاب المهين الأليم في نار جهنم. وإن كان مؤمنًا بما يدعو إليه من خير، فهو إذن عالم أحمق لا عقل عنده، إذ يعرف الخير وينحرف عنه، ويعرف الشر وينغمس فيه، ولا يكون هذا في الإنسان إلا ثمرة انهيار أخلاقي في نفسه. فإما أن يكون مرضه الأخلاقي مرض الكبر عن الطاعة، ومن الطبيعي أن يستحق المستكبر هذا العذاب الأليم المهين، وإما أن يكون مرضه الأخلاقي مرض ضعف الإرادة وتخاذلها أمام سلطان الشهوات وأهواء النفس، وقد كان عليه أن يقوي من إرادته، ولو أنه كان صادقًا مخلصًا في إرشاده ونصحه للناس، لاستطاعت أقواله ونصائحه أن تؤثر فيه تأثيرًا ما، ومع التكرار والمتابعة يستقيم حاله، ويصير من الذين يعملون بما يقولون؛ لأن النصيحة الصادقة سلاح ذو حدين: أحدهما يؤثر بالناصح، وثانيهما يؤثر بالسامع. فإذا هو استمر على حاله من الانحراف في السلوك، ومن مخالفة أعماله لأقواله، فهو إنسان قد تبلد حسه الأخلاقي، ومات ضميره ووجدانه، وتحول إلى تاجر أقوال، له منها مغانم ومنافع دنيوية، وصار إنسانًا لا عقل عنده يعقله عن الشر، وعندئذ يكون علمه وتكون أقواله حجة عليه، ولا ريب عندئذ أن يستحق هذا العذاب المهين الأليم.

فقوله تعالى للذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم: (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ؟ أي أفليس لديكم عقل يعقلكم عن اتباع أهوائكم وشهواتكم التي تزين لكم الإثم والمعصية وجحود الحق الذي جاءكم به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

على أن من كان مخلصًا في دعوته وإرشاده ونصحه، فلا بد أن يأتي عليه يوم تؤثر في نفسه أقواله، حتى يكون من أهل الاستقامة قولًا وعملًا. لذلك فعلى مرتكب الإثم أن ينصح الآخرين بعدم ارتكابه، وإن لم يستطع هو كف نفسه عنه؛ لأنه إذا أخلص في نصحه استفاد هو من كلام نفسه مثل استفادة الآخرين منه أو أكثر.

ولكن الرذيلة الخلقية تتمثل باتخاذ صنعة الكلام تجارة دنيوية بالدين، إذ الحس الأخلاقي والحس الديني يتبلدان معها ثم يموت.