موسوعةالأخلاق الإسلامية-نصوص مشروحة تشتمل على جوانب أخلاقية (10- في الرحمة بذوي الحاجات والحث على العطاء)
الوصف
نصوص مشروحة تشتمل على جوانب أخلاقية
10- في الرحمة بذوي الحاجات والحث على العطاء
10- في الرحمة بذوي الحاجات والحث على العطاء
روى مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فومٌ عراةٌ، مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
والآية التي في الحشر:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
تصدق رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة.
قال: فجاء رجلٌ من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
في صدر النهار: أي في أوله.
عراة: جمع عارٍ، وهو من أخلقت أثوابه.
مجتابي النمار: أي مقطعي الثياب، والنمار جمع نمرة، وهي بردة من صوف يلبسها الأعراب مخططة تشبه جلد النمر.
فتمعر وجه رسول الله: أي تغير لونه شفقة عليهم وتألمًا لفقرهم.
الفاقة: الفقر والحاجة.
يتهلل: أي يستنير ويتلألأ.
كأنه مذهبة: أي كأنه فضة مموهة بالذهب.
الوزر: الحمل الثقيل.
يستأثر بمشاعرنا في هذا الحديث إنسانية الرسول صلى الله عليه وسلم الكاملة، ورحمته العظيمة، وشفقته الكريمة، بهؤلاء المضريين البؤساء، الذين قدموا عليه صلوات الله عليه بأثوابهم المقطعة وجوعهم الظاهر، وفاقتهم التي تبعث الألم في قلوب الرحماء.
إن إنسانية الرسول الكاملة لم تمر على مشهد فاقة القوم المضريين مرور أكثر الناس الذين تبلد حسهم الإنساني، فلا يجدون انفعالًا وجدانيًّا نحو ذوي الحاجة يدفعهم لمواساتهم ورفع الضر عنهم، ولكن إنسانيته الكاملة صلوات الله عليه قد انفعلت لهذا المشهد انفعالًا بالغًا، ظهر في تلون وجهه رحمة بهم، ثم ظهر في دخوله إلى بيته لعله يجد عنده ما يواسيهم به، ثم ظهر باهتمامه البالغ بهم، الأمر الذي دعاه إلى جمع الناس، وحثهم بنفسه في خطبة مؤثرة رائعة على مواساة هؤلاء القوم ذوي الفاقة، وهو ما دفع المسلمين إلى أن يساهموا بمعوناتهم، حتى ترابى كومان من طعام وثياب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن ينفض الجمع عقب صلاة الظهر على ما يظهر.
ألا فليتخذ القادة وعظماء الناس هذا الإنسان الكامل ذا الخلق العظيم أسوة حسنةً به يقتدون، وبهديه يسترشدون، فمن قصة هذا الحديث يتبين لنا ما كان يتحلى به الرسول صلى الله عليه وسلم من خلق الرحمة والمشاركة الوجدانية، وما كان يتحلى به من جود نفسي عظيم، فالجواد إذا لم يجد ما يبذله بلغ الألم من نفسه مبلغًا كبيرًا، ولا يُسرّي عنه هذا الألم إلا أن يجد الباذلين قد قاموا بما كان يريد أن يقوم به، ولا يشعر بالسعادة حتى يرى ذوي البؤس قد مسحت على صدورهم يد السعادة بتفريج الكرب، وإزالة البؤس.
والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب المسلمين بنفسه، ويحمل بنفسه مهمة الجباية للفقراء.
وكانت طريقة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لمساعدة هؤلاء القوم الفقراء طريقة بارعة بالغة اللطف والرقة، فقد جاءت بأسلوب الخبر لا بأسلوب الأمر، وبأسلوب التنكير والإبهام لا بأسلوب الخطاب، وجاء التوجيه للبذل في حدود اليسر والاستطاعة، حتى لا يعتذر منهم معتذر بأنه لا كثير عنده ينفق منه، وحتى لا يخجل منهم مقلٌّ بما يقدم من قليل عطاء. وبإيجاز رائع أرشد وحث وبلغ الغاية.
واستجابة لهذه الدعوة الرفيقة الرقيقة إلى البذل تسابق المسلمون إلى تقديم ما جادت أنفسهم به، لقد علمهم الرسول صلى الله عليه وسلم كيف تكون العاطفة الأخوية، والرحمة الإنسانية، والمشاركة الوجدانية، وكيف ينبغي أن تكون أخلاق المسلمين تجاه إخوانهم المسلمين.
ويدل على كمال إنسانية الرسول صلى الله عليه وسلم مشهده وقد امتلأ قلبه سرورًا وابتهاجًا، حتى طفح فظهر على وجهه تهللًا وإشراقًا وبشرًا، حينما رأى عطايا الصدقة تترابى بين يديه لسد حاجة هؤلاء الفقراء الذين قدموا إليه بائسين.
ثم لم ينس الرسول صلى الله عليه وسلم التنويه بفضل أول من بادر من المسلمين إلى تقديم صدقته، فسن بسبقه إلى البذل سنة حسنة تبعه فيها غيره، وانتهز الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المناسبة لإعلان مبدأ هام من مبادئ الإسلام، وأصل عظيم من أصوله، فقال:
من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء.
وفي هذا إعلان لأصل من أصول المحاسبة والجزاء، وهو المحاسبة على العمل وعلى آثار العمل، خيرًا كان أو شرًا.