موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (7- السعي لكسب الرزق)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-علو الهمة (7- السعي لكسب الرزق)
244 0

الوصف

                                                    علو الهمة

                                                7- السعي لكسب الرزق
            الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل التاسع: علو الهمة >>

7- السعي لكسب الرزق

ومن ظواهر خلق علو الهمة سعي الإنسان لكسب رزقه بعمله، وترفعه عن أن يكون عالة على غيره، وترفعه عن المسألة وقبول الصدقات ما لم تدع الضرورة القصوى إلى ذلك.

أولًا: الحث على العمل للكسب:

لقد أمر الإسلام بالمشي في مناكب الأرض لاكتساب الرزق، وذم المسألة ونهى عنها إلا في حدود الضرورة، تكريمًا للمسلم عن المهانة والمذلة والضعة، وإعلاء لهمته، وحفاظًا على كرامة نفسه، ونجد كثيرًا من النصوص الإسلامية والتطبيقات التربوية النبوية المشتملة على ذلك، ومنها ما يلي:

1- يقول الله تعالى في سورة (الملك 67):

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15))

ففي هذه الآية يمتن الله علينا بأنه جعل الأرض لنا ذلولًا، أي: مذللة مطوعة لنا، نحرثها ونزرعها ونستخرج كنوزها، وننتفع من طاقاتها وخصائص عناصرها، ونستعمرها كما نشاء. وبعد هذا الامتنان أمرنا بالمشي في مناكب الأرض. أي: في جوانبها التي تستدعي منا بذل الجهد والكدح والكد.

ومناكب الأرض: مرتفعاتها وطرقها وجوانبها، ولما كان المنكب من الإنسان رأس كتفه، كان استعمال المناكب هنا دليلًا على أن العمل للانتفاع من خيرات الأرض يحتاج من العاملين كدًا وكدحًا، ولا يأتي هذا الانتفاع بأيسر عمل.

وفي الأمر بالمشي في مناكب الأرض للأكل من رزق الله أمرٌ بالعمل للكسب. ولما كان لكسب الرزق بالعمل وجهان: وجهٌ حلال ووجه حرام؛ أشارت الآية إلى وجوب التقيد في كسب الرزق بما أحل الله، وذلك عن طريق التذكير بيوم الحساب، إذ ختم الله الآية بقوله: (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)

2- ومن جمال توزيع الجهد في تنظيم العمل في الإسلام، أن الله تبارك وتعالى جعل للعبادة أوقاتًا، أوجب السعي فيها لأداء العبادة الواجبة، فإذا أتم المسلم عبادته فإن الله يناديه ويأمره بأن يمشي في جوانب الأرض ويبتغي من فضل الله مطالب حياته، فقال تعالى في سورة (الجمعة 62):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10))

فهذا النص القرآني يأمرنا بأن نسعى إلى شهود الصلاة من يوم الجمعة وذكر الله فيها، وترك أعمالنا الدنيوية في هذه الساعة، وأهم ما يجذبنا إلى هذه الأعمال الدنيوية البيع الذي فيه ربح من غير جهدٍ كبير، فإذا قضيت الصلاة فإنه يأمرنا بأن ننتشر في الأرض، ونبتغي فيها من فضل الله مطالب حياتنا.

ومن الملاحظ أن الله تعالى أمرنا بأن نمشي في مناكب الأرض لاكتساب الرزق وبأن نسعى للصلاة من يوم الجمعة، ومعلوم أن السرعة في العمل هي في السعي أكثر منها في المشي، ويظهر أن الغرض من هذا أن يكون العمل لاكتساب الرزق مصحوبًا بأناة ورفق مع صبر وكدح، وأن السرعة لا تنفع فيه، ولذلك جاء التعبير في جانبه بالمشي. أما العبادة فينبغي أن تكون بهمة نفسية ونشاط في العمل، نظرًا إلى أنها محددة الوقت، معلومة المقدار، مضمونة النتيجة عند الله، بخلاف اكتساب الرزق في مناكب الأرض ففي الأغلب هو من قبيل اتخاذ سبب احتمالي قد لا تتحقق به النتيجة المرجوة إلا أن الله قد ضمن رزق العباد بفضله، وما عليهم إلا أن يتخذوا الأسباب.

وليس المراد من السعي للصلاة الإسراع الحثيث في المشي، وإنما المراد الهمة النفسية والنشاط في العمل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بأن يكون السعي للصلاة مصحوبًا بالسكينة والوقار، ونهى عن الركض إليها، ولكن السكينة لا تعني التباطؤ والكسل وتخاذل الهمة.

3- ودفعنا الإسلام إلى العمل لاكتساب مطالب حياتنا ولو أحوجنا ذلك إلى ركوب البحار، فبالعمل نترفع عن أن نكون عالة على الآخرين العاملين، ونعف أنفسنا عن سؤال الناس وتقبل الصدقات، فقال تعالى في سورة (الإسراء 17):

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66))

فالله تبارك وتعالى سخر لنا في النظام الثابت الذي وضعه لكونه أمورًا كثيرة، منها أن تجري الفلك في البحر، فنركبها ونعبر البحار عليها إلى بلاد بعيدة، لنبتغي بذلك كسب مطالب حياتنا من فضل الله، وفي هذا الامتنان توجيهٌ لسبيلٍ من سبل العمل لكسب الرزق.

يزجي لكم الفلك: أي يسوق لكم الفلك في البحر، ضمن ما سخر لكم من أنظمة وقوانين ثابتة.

ونظير هذا قول الله تعالى في سورة (الجاثية 45):

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12))

فجريان الفلك في البحر لم يتم إلا بأمر الله، إذ وضع للناس أنظمة ثابتة تمكنهم من ذلك، وجعل من حكمة هذه الأنظمة الثابتة أن ينتفع الإنسان منها، فيركب البحار ويبتغي مطالب حياته من فضل الله، بأسفاره البحرية.

وقد ذكر الله بعض المسخرات الظاهرة في الكون، مما تتدخل في صناعته يد العمل الإنساني، لنقيس عليها سائر المسخرات الأخرى مما يمكن أن تتطور إليه الصناعة الإنسانية، مستفيدة من واقع الأنظمة والقوانين الكونية الثابتة، التي نظم الله بها كونه. وعلى هذا فباستطاعتنا أن نقيس كل المكتشفات والمبتكرات الصناعية التي قد يصل الإنسان إليها، على ما امتن الله به علينا من مكتشفات سابقة توصل الإنسان إليها في القرون السالفة الأولى.

على أن لدينا نصوصًا عامة تنبه على أن الله قد سخر لنا جميع ما في السموات والأرض؛ فقال الله تعالى عقب الآية السابقة من سورة (الجاثية 45):

(وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13))

4- وامتن الله علينا بما سخر لنا مما في السموات وما في الأرض، كما سبق، ومنها أن جعل لنا نظام الليل والنهار لنسكن في الليل إلى الراحة، ولنعمل في النهار في كسب مطالب حياتنا مبتغين كسبها من فضل الله، فقال تعالى في سورة (القصص 28):

(وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73))

أي: لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضل الله في النهار، وجاء التوزيع على طريقة اللف والنشر المرتب، وأفرد الضمير في (فيه) ولم يأت مثنى إشارة إلى هذا التوزيع، أي لتسكنوا فيه (أي في الليل) ولتبتغوا من فضل الله (أي في النهار) وقد حذف هنا الضمير إيجازًا، ودل عليه التناظر والتقابل والتكامل.

5- وفي الحث على العمل لكسب الرزق والترفع عن مسألة الناس، روى البخاري عن الزبير بن العوام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمةٍ من حطبٍ على ظهره فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه.

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خيرٌ من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه.

ففي هذا التوجيه النبوي دفعٌ شديد إلى العمل لاكتساب الرزق، وإعفاف النفس عن صدقات الناس، وفيه إعلاءٌ من همة نفس المؤمن، وفيه تحريض للمسلم على أن يحافظ على كرامته، إضافة إلى ما فيه من توجيه كل قادر على العمل للمساهمة في تنمية الثروة العامة للمسلمين.

وفيه بيان أن أشق الأعمال وأقلها حصيلة كسب، خيرٌ وأفضل من سؤال الناس صدقاتهم ولو أعطوه.

6- ولفت الرسول صلى الله عليه وسلم أنظار المسلمين إلى قدوة حسنة في مجال العمل، ليشحذ همتهم للعمل في اكتساب الرزق.

فقد روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده.

وروى البخاري عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ما أكل أحدٌ طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده.

فداود عليه السلام على الرغم من كونه ملكًا عظيمًا وذا سلطان كبير، كان لا يأكل إلا من عمل يده؛ لأن انتفاع الإنسان في الحياة الدنيا من كسب يده أشرف له وأكرم لنفسه.

ومعظم الأنبياء كانت لهم أعمالٌ يأكلون منها، فزكريا عليه السلام كان نجارًا، روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

كان زكريا نجارًا.

وما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم، وقد كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يرعى الأغنام لأهل مكة قبل بعثته مقابل قراريط يأخذها أجرة على عمله، روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم

فقال أصحابه: وأنت؟ فقال:

نعم، كنت أرعى على قراريط لأهل مكة.

7- ونصوص الحث على الأكل من كسب اليد كثيرة، منها ما يلي:

روى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم.

وفي رواية أبي داود والدارمي:

إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه.

والمراد من كون الولد من كسب والده: أن الولد إذا كسب كسبًا فأكل منه أبوه فإن ذلك للأب طعام طيب؛ لأنه لم يصل الولد إلى سن الكسب إلا بعد جهد مضنٍ بذله أبوه في تربيته.

* وقضية الرزق ذات وجهين كسائر قضايا ما يجنيه الإنسان بعمله في الحياة:

الوجه الأول:
وجه الكسب السببي، وهو ما يمارسه الإنسان بعمله وسعيه وبحثه عن رزقه.

الوجه الثاني:
وجه الفضل الرباني بتقدير الرزق