موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصبر وفروعه وظواهره السلوكية(10- الدأب والمثابرة، من فروع خلق الصبر)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصبر وفروعه وظواهره السلوكية(10- الدأب والمثابرة، من فروع خلق الصبر)
228 0

الوصف

                                                    الصبر وفروعه وظواهره السلوكية

                                                 10- الدأب والمثابرة، من فروع خلق الصبر
         الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل السادس: الصبر وفروعه وظواهره السلوكية >>

10- الدأب والمثابرة، من فروع خلق الصبر

الدأب والمثابرة من سمات أهل الجد والعمل، الخليقين بأن يظفروا بنتائج أعمالهم، والذين لا صبر عندهم يمدهم بالدأب والمثابرة قلما ينجحون في حياتهم.

والدأب والمثابرة ثمرة اجتماع علو الهمة مع الصبر، فلا بد فيهما من حوافز علو الهمة، وحوافظ طاقات الصبر.

إن الأعمال في الحياة تخضع لقوانين وسنن ثابتة، فمن لم يدأب ويثابر على عمله ويصبر على متابعة قوانين الأعمال وسننها، لم يظفر بالنتائج التي يرجوها.

من أراد أن يرتقي حتى يبلغ القمة، فعليه أن يدأب في ارتقاء العقبات ويثابر كادحًا في الصعود، ويصبر على تحمل المشقات التي تعترضه في مرتقاه.

ومن أراد بلوغ الماء في جوف الأرض أو الوصول إلى كنز دفين من كنوزها، فعليه أن يدأب في حفر الأرض ويثابر على ذلك، ولو اعترضته صخور قاسيات، حتى يصل إلى مطلبه الذي يرجو، أو ييأس من تحقيق النتيجة لعقم السبيل، أو للخطأ في خطة العمل.

ولا يكون العالم عالمًا حتى يمر بمرحلة طويلة من الدأب والمثابرة على طلب العلم، معتصمًا بقدر كبير من صبر النفس على الجد والاجتهاد والدراسة.

ولا ينال الطموح إلى مجد الزعامة ما يصبو إليه حتى يظفر بثقة الجماهير من الناس به، ولا يظفر بهذه الثقة، حتى يدأب ويثابر على تقديم الأمثلة والبراهين العملية التي تغرس الثقة في قلوب الناس، وذلك لا يكون إلا بصبر عظيم في أمدٍ طويل.

ومبتكرات العلم ومنجزات الحضارة لم تظهر ولم تكتشف إلا بالدأب الطويل، والمثابرة على متابعة البحث والاختبار والتجربة، مع دقة الملاحظة في كل مرحلة من مراحل العمل الدائب، ولولا الصبر الذي يتمتع به الباحثون لما ظفروا بالنتائج التي وصلوا إليها، ولما ظفرت الإنسانية بثمرات عبقرياتهم، ولا بما في هذا الكون من كنوز طاقات، وكنوز عناصر.

التوجيهات الإسلامية:

ولما كانت التعاليم الإسلامية صورًا منسجمة كل الانسجام مع واقع حال السنن الكونية، وجدنا الإسلام قد عمل على تدريب المسلمين على خلق الدأب والمثابرة في الأعمال، في مختلف تعاليمه وتكاليفه وتوجيهاته.

إن الصلوات اليومية، مثالٌ من أمثلة التكاليف الإسلامية التي تحتاج المواظبة عليها إلى دأب ومثابرة دونما فتور، في السفر، والحضر، في الصحة والمرض، في السلم والحرب، في أحوال النشاط والكسل. وليس في هذا التكليف لغير ذوات الحيض والنفاس إجازة أسبوعية، ولا شهرية، ولا سنوية، ولكن فيه تخفيف في أحوال السفر والمرض والعجز، وفي ظروف القتال، وهذا التخفيف لا يصل إلى درجة ترك العمل أصلًا، إنما هو تخفيف في كميته أو كيفيته، أو في تحديد وقته، ولذلك قال الله تعالى في سورة (البقرة):

(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239))

فخفف الله في حالة الخوف من شروط كيفية الصلاة، ولم يأذن بتركها تركًا كليًّا.

وأثبت الله الفلاح للمؤمنين الذين من صفاتهم أنهم يحافظون على صلواتهم، فقال تعالى في سورة (المؤمنون 23):

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11))

وأكد الله هذه الصفة من صفات المؤمنين أهل الفلاح والفوز بجنات النعيم، فقال تعالى في سورة (المعارج 70):

(الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ (23))

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34))

وعمل الإسلام على غرس خلق الدأب والمثابرة على العمل في نفوس المسلمين، والبعد بهم عن الطفرات الانفعالية في أعمالهم، وما يرافقها من تطورات إقبال مفرط وإدبار مفرط.

وضرب الله لنا مثلًا من الثبات على العمل والدأب فيه، ما سخره في كونه من نظم ثابتة وحركات دائبة، فالشمس والقمر مسخران دائبان على القيام بوظائفهما لا يفتران، والليل والنهار كذلك، وسنن الحياة وقوانين الوجود متصفة بصفة الثبات والدأب المستمر، قال الله تعالى في سورة (إبراهيم 14):

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33))

فمن أخلاق المسلم المتأدب بآداب الإسلام والمتبع لتعاليمه ووصاياه، خلق الدأب والصبر على متابعة العمل المستمر.

ومن التوجيهات النبوية للأخذ بخلق الثبات والدأب والمثابرة على العمل النافع ما يلي:

روى البخاري ومسلم عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.

فهذا الحديث يدعو إلى فضيلة الثبات والدأب والمثابرة على العمل، وعدم إجهاد النفس بطفرات الأعمال التي تستنفذ الطاقات، وتميت الرغبات أو تحولها، ثم لا تحقق الغايات المنشودة على الوجه الأكمل.

وروى البخاري ومسلم عن عائشة أيضًا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، قال:

من هذه؟

قالت: هذه فلانة -تذكر من صلاتها- قال:

مه، عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا.

قالت: وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه.

فهذه المرأة كانت تكثر من النوافل ومن قيام الليل، إلى حد الإفراط والمبالغة، فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله:

مه

وهذه الكلمة فيها نهي وزجر. ثم وجه الرسول صلى الله عليه وسلم لما ينبغي فقال:

عليكم بما تطيقون

أي: الزموا من الأعمال ما يقع ضمن حدود طاقتكم فلا تزيدوا عليها، لئلا تنفر نفوسكم من العمل كله حين تستنفدوا فيه طاقاتكم.

ثم أوضحت عائشة مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بقولها: وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه.

فمن هذا يتضح لنا أن من العناصر الخلقية التي عمل الإسلام على تربيتها في نفوس المسلمين، عنصر الثبات والدأب والمواظبة على العمل، وهذا لا يكون مع الطفرات والزيادات والمبالغات، والإجهاد الذي يستنفد الطاقات، ويقطع الهمم ويحول الرغبات.

وجاء في الحكمة العربية: "إن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى" وذكر ابن منظور في لسان العرب أنها من قول مطرف.

والمنبت هو الذي يعطي دابته كل وسعها من الجري، حتى تهلك فينقطع في طريقه، فهو منبتٌ أي منقطع في الطريق بسبب سوء تصرفه، إذ لم يبق لنفسه ظهر دابته، ولم يقطع مسافة الأرض التي يريد اجتيازها.

ولما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المبالغة والزيادة في الأعمال فوق حدود الطاقة المعتادة، خشي أن يفهم منه أن هذه الزيادات من نوافل الطاعات تعتبر عند الله من المعاصي التي يكرهها من عبده، فقال:

فوالله لا يمل الله حتى تملوا

أي لا يمل الله من مكافأتكم على طاعاتكم وأعمالكم حتى تملوا أنتم من متابعة الأعمال وتفقدوا نشاطكم للقيام بها. فليس النهي عن الزيادة لكراهية منحكم الأجور عليها، وإنما هو لمصلحتكم حتى تثبتوا عليها، وتداوموا على فعلها في مواقيتها، ولا تنفر نفوسكم من تكرارها مع المواظبة والدأب.