موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصبر وفروعه وظواهره السلوكية(9- الكتمان وحفظ السر، من فروع خلق الصبر)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصبر وفروعه وظواهره السلوكية(9- الكتمان وحفظ السر، من فروع خلق الصبر)
226 0

الوصف

                                                   الصبر وفروعه وظواهره السلوكية

                                                9- الكتمان وحفظ السر، من فروع خلق الصبر
          الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل السادس: الصبر وفروعه وظواهره السلوكية >>

9- الكتمان وحفظ السر، من فروع خلق الصبر

الكتمان هو ضبط النفس ضد دوافع التعبير عما يختلج فيها، وذلك لا يتم إلا بالصبر، من أجل هذا صح لنا أن نعتبره من فروع خلق الصبر.

على أن له أيضًا صلة بقوة الإرادة، المستندة إلى صحة العقل وسلامة الرأي، ولا يعزب عنا أن الصبر من قوة الإرادة.

وحين يكون في كتمان الإنسان حفظ لسر استأمنه صاحبه عليه، وطلب منه عدم إفشائه، فهو حينئذٍ مظهر من مظاهر الأمانة، ومظهر من مظاهر الصبر معًا.

ويكون الكتمان فضيلة إذا كان في أمر ينبغي كتمانه وعدم إفشائه؛ لأن المصلحة المعقولة والمشروعة تقضي بكتمانه، وهو عندئذ فضيلة خلقية.

فمن ذلك كتمان مقدار القوة والخطط الحربية عن الأعداء، إن هذا الكتمان فضيلة خلقية قد يرتبط بها النجاح والظفر، وقد تكون بضدها الخيبة والهزيمة.

وقد كان الرسول صلوات الله عليه في قيادته وسياسته ملتزمًا خلق الكتمان، كلما ارتبطت به مصلحة المسلمين ضد أعدائهم، فكان إذا أراد غزوة ورَّى بغيرها، وإذا وضع خطة لم يعلن عنها حتى يأتي وقت التنفيذ، لئلا يعلم العدو بها، فيتخذ لها ما يضادها، وما يفسدها.

وكثيرًا ما يكون قضاء الحاجات مرهونًا بالكتمان، وفي الحكم السائرة: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.

فالكتمان في هذه الأمور ونظائرها فضيلة نافعة.

ومن الكتمان المحمود ما جاء في قصة يوسف عليه السلام. لقد أوصاه أبوه يعقوب عليه السلام بأن يكتم رؤياه المبشرة له بالمجد العظيم، عن إخوته، حتى لا يثير حسدهم فيكيدوا له، قال الله تعالى في سورة (يوسف 12):

(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5))

فقد أمر يعقوب عليه السلام ابنه يوسف بأن يكتم خبر رؤياه عن إخوته، حذر أن تثير حسدهم له، فيكيدوا له كيدًا ما؛ لأنهم أبناء علات، أبوهم واحد وأمهاتهم شتى.

أما كتمان ما يجب إظهاره وتبليغه من الحق فهو معصية، وهو رذيلة خلقية، والساكت عن الحق شيطان أخرس، وذلك لأنه بسكوته نصر الباطل، فكان بذلك شيطانًا، ولما كان عمله سلبيًّا قائمًا على السكوت استحق أن يوصف بالخرس لا بالصمت.

وقد جاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:

من أوتي علمًا فكتمه ألجمه الله بلجام من نارٍ.

وكتمان الشهادة إثم تتحمل القلوب وزره، قال الله تعالى في سورة (البقرة 2):

(وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283))

ولذلك شدد الله تبارك وتعالى في مؤاخذة بني إسرائيل إذ كتموا شهادة عندهم من الله، وذمهم ذمًا كبيرًا على ذلك، وجعلهم من المفرطين في الظلم، فقال عز وجل يخاطبهم في سورة (البقرة 2):

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140))

أمر بني إسرائيل أمر عجيب، إنهم يكتمون كل شهادة عندهم من الله، إذا كان لهم في الكتمان مصلحة خاصة، ويكتمون الحق وهم يعلمون، إذا كان لهم هوىً في الكتمان، ولو كان هوىً شيطانيًّا خبيثًا، ولذلك خاطبهم الله بقوله في سورة (البقرة 2):

(وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42))

وقال لهم في سورة (آل عمران 3):

(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71))

ولما كان كتمان ما يجب تبليغه وبيانه من أمور الدين أمرًا خطيرًا وإثمًا عظيمًا، فقد حذرت النصوص الإسلامية منه تحذيرًا شديدًا.

فمن ذلك قول الله تعالى في سورة (آل عمران 3):

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187))

وقول الله تعالى في سورة (البقرة 2):

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159))

حفظ السر:

علمنا أن حفظ السر من الكتمان المحمود، والسر هو خبر مستأمن على حفظه وعدم إفشائه، ومن أودع أخاه سرًا فإنما هو أمانة جعلها عنده، وعلى المستأمن أن يحفظ أمانته.

ومن قبل من الناس بأن يودع سر أخيه عنده فقد أعطى أخاه عهدًا بأن لا يفشيه للناس، فوجب عليه الوفاء بعهده قال الله تعالى في سورة (الإسراء 17):

(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34))

أي: كان مسؤولًا عند الله عن حفظه والوفاء به.

وأبان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرجل إذا حدث الحديث ثم انصرف فقد أودع عند من حدثه أمانة، لذلك فعلى المستأمن أن يحفظ الأمانة التي عنده، فلا يخون صاحبه بها.

روى الترمذي وأبو داود بإسناد حسن، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة.

ولكن حفظ أسرار الناس مشروط بأن لا يؤثر على حق الله أو حق المسلمين، فإذا كان مؤثرًا على شيء من ذلك، كان من الخيانة لحق الله أو لحق المسلمين التستر على ما فيه إضرار بهما أو بأحدهما، وليس من حفظ الأمانة هذا التستر. يدل على هذه الحقيقة ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

المجالس بالأمانة، إلا ثلاثة مجالس: سفك دمٍ حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مالٍ بغير حق.

ومن الأسرار التي يجب حفظها وعدم إفشائها ما يكون بين الرجل وامرأته، فهو أولًا حق المرأة في عدم إفشاء ما يكون منها لزوجها، وهو ثانيًا حق الآداب الإسلامية العامة التي توصي بستر مثل هذه الأمور، فالمرء مستأمن عليها من جهتين: جهة الآداب الإسلامية، وجهة صاحب الحق الخاص.

روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها.

وحكم المرأة في هذا مثل حكم الرجل، فالنصوص الإسلامية لها صفة العموم، ما لم يكن الأمر من خصائص أحدهما.

أمثلة على حفظ الأسرار:

1- روى البخاري عن عبد الله بن عمر، أن عمر رضي الله عنه حين تأيمت  تأيمت: أي صارت بلا زواج وكان زوجها قد توفي.   بنته حفصة، قال عمر: "لقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر، فلم يرجع إلي شيئًا، فكنت عليه أوجد  أوجد مني: أي أكثر غضبًا أو تألمًا.   مني على عثمان. فلبثت ليالي ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه. فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئًا؟ فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتها".

2- وروى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا. فلما رآها رحب بها وقال:

مرحبًا يا ابنتي

ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارها، فبكت بكاءً شديدًا، فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت، فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار، ثم أنت تبكين؟

فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره.

فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقالت: أما الآن فنعم، أما حين سارني في المرة الأولى، فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين، وأنه عارضه الآن مرتين

وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك

فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال:

يا فاطمة، أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة؟

فضحكت ضحكي الذي رأيت.

3- وروى مسلم عن ثابت عن أنس، قال: أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني في حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة. قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر. قالت: لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا.

قال أنس: والله لو حدثت به أحدًا لحدثتك به يا ثابت.

4- وكان حذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين.

فما أعظم التربية المحمدية الإسلامية، التي جعلت رجال الصحابة ونساءهم وغلمانهم أمناء على الأسرار بحق!!