موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصبر وفروعه وظواهره السلوكية(8- الرفق، من فروع خلق الصبر)
الوصف
الصبر وفروعه وظواهره السلوكية
8- الرفق، من فروع خلق الصبر
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل السادس: الصبر وفروعه وظواهره السلوكية >>
8- الرفق، من فروع خلق الصبر
وقد يكون من فروع خلق الصبر الرفق؛ لأن الرفق في الأمور، والرفق في معاملة الناس، لا يكون إلا بضبط النفس عن الاندفاع بعوامل حب العنف والقسوة، وهذا وجه من وجوه الصبر.
وقد يشارك خلق الرحمة خلق الصبر في ظاهرة الرفق، فمن يشعر نحو غيره بشعور الرحمة يكون في معاملته رفيقًا لا عنيفًا، إذ يدفعه إلى الرفق به رحمته به.
وقد ينفرد كل من خلق الرحمة وخلق الصبر في ظاهرة الرفق، وكثير من ظواهر السلوك الخلقي قد ترجع إلى أكثر من أساس من الأسس الأخلاقية العامة، فتكون إحداها ظاهرة لها مجتمعة أو منفردة.
والرفق هو ظاهرة خلقية يضادها العنف، وهو من ظواهر خلق الصبر، أو من ظواهر خلق الرحمة، أو من ظواهرهما معًا.
وقد أوصى الإسلام بالرفق وحث عليه، واعتبر المحروم منه محرومًا من خير كثير، وذلك لأن الرفق في الأمور من شأنه أن يصلح ويعطي أفضل النتائج وأجود الثمرات، بخلاف العنف فمن شأنه أن يفسد ويعطي نتائج سيئة. إن العنف في معالجة الآلة يكسرها، وفي مقارعة الخطوب يحطم الطاقات ويدمر القوى، ويحرم من الظفر بالنتائج المطلوبة. أما الرفق بالأحياء فهو رحمة توجبها الفضيلة الإنسانية، وتدعو إليها المشاركة الوجدانية الكريمة. فإذا كانت الأحياء من ذوات الإرادة المدركة فإن الرفق بها من شأنه أن يصلح نفوسها ويؤثر فيها أثرًا حسنًا، ويستعطفها إلى المطلوب منها أفضل استعطاف، ومن شأنه أن يلين عريكتها وإن كانت صلبة جافة قاسية، بخلاف معاملتها بالعنف، فإنه يولد لديها صلابة التحدي والعناد، وعدم الاستجابة للمطلوب منها، وإن كان حقًا وخيرًا، وإن كانت لينة العريكة في فطرتها.
والعنف في معاملة الناس يورث العداوات والأحقاد ورغبات الانتقام، متى سنحت الفرصة لتنفيذه.
أما الرفق في معاملة الناس، فهو يؤلف قلوبهم، ويمتلك موداتهم، ويطوعهم، لا سيما رفق الراعي برعيته في إدارة شؤونهم، وتسيير أمورهم، وفرض الطاعة عليهم.
ومن أجل ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفق، وحذر من العنف، وخص الرعاة بتوجيه خاص، فحذرهم من العنف برعاياهم ومن التشديد عليهم.
أحاديث نبوية في الرفق:
1- روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه.
وفي رواية:
إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله.
2- وروى مسلم عن عائشة أيضًا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:
عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه.
3- وروى مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
من يحرم الرفق يحرم الخير كله.
أي: يحرم خير العمل الذي استخدم فيه العنف، وانعدم فيه الرفق، وذلك لأن أسلوب العنف أسلوب لا يأتي بخير.
4- وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا:
اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به.
وتشديد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا يدل على أن حاجة الرعاة إلى الرفق أعظم من حاجة غيرهم إليه، فهو عنصر من عناصر القيادة الناجحة، التي يرتقب لها الاستمرار والقبض على أزمة قلوب الأفراد.
وليس المراد من الرفق اللين في المواقف التي تتطلب الشدة، ولكنه حسن السياسة بوجه عام، ما لم تدع الضرورة إلى شيء من العنف والشدة.
5- وروى الترمذي بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لينٍ سهل.
6- وروى البخاري ومسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا.
ومعلوم أن التيسير من الرفق بالناس.
7- وروى البخاري عن أبي هريرة قال: بال أعرابيٌ في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
دعوه، وأريقوا على بوله سجلًا من ماء أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين.
سجلًا أو ذنوبًا: أي دلوًا مملوءةً ماءً.
فدلت هذه النصوص على أن الرفق في الأمور والرفق بالناس واللين والتيسير من جواهر عقود الأخلاق الإسلامية، وأنها من صفات الكمال، وأن الله تعالى من صفاته أنه رفيق، وأنه يحب من عباده الرفق، فهو يوصيهم به ويرغبهم فيه، ويعدهم عليه عطاءً لا يعطيه على شيءٍ آخر.
ويفهم من النصوص أن العنف شين خلقي، وأنه ظاهرة قبيحة، وأن الله لا يحبه من عباده، فالرفق لا يكون في شيء إلا زانه، أي حسنه وجمله، ولا ينزع من شيء إلا شانه، أي قبحه.
أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
من يحرم الرفق يحرم الخير كله
: فهو على سبيل المبالغة، أو أن بعض أحوال العنف تحرم الإنسان من الخير كله، كأن يدفع العنف صاحبه إلى التمرد على الله والكفر به، وعندئذٍ يحرم حتمًا من الخير كله؛ لأن الخير حقًا هو خير الآخرة، ومن حرم خير الآخرة فقد حرم الخير كله، أو أن العنف في أي أمر من الأمور يفضي إلى الحرمان من الخير كله في ذلك الأمر؛ لأن العنف يفسده، ومتى فسد الأمر لم ينتج خيرًا، ولعل هذا الأخير هو المراد والله أعلم.
وأبان الرسول صلى الله عليه وسلم أن القريب الهين اللين السهل يحرم على النار، والسبب في ذلك أنه لين لدعوة الإيمان، رفيق القلب رفيق النفس رفيق السلوك، سهل الانقياد إلى الخير، لين لا يتشدد في تعامله مع الناس، ولا يقسو عليهم، ليس في خلقه وعورة بل هو سهل، فالله يكافئه على كل ذلك بالرفق، فيعفو عنه ويصفح ويجازيه من جنس عمله الجزاء الأوفى.
رفق الدعاة والمعلمين:
وأولى الناس بالتخلق بخلق الرفق الدعاة إلى الله والمعلمون، فالدعوة إلى الله لا تؤثر ما لم تقترن بخلق الرفق في دعوة الخلق إلى الحق، وتعليم الناس لا يؤتي ثمراته الطيبات ما لم يقترن لخلق الرفق الذي يملك القلوب بالمحبة.
أما العنف فمن شأنه التنفير من الداعي الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والتنفير من المعلم. إن من توجه له الدعوة إلى الخير، أو يراد تعليمه، متى وجد العنف والشدة انكمشت عاطفته فانغلق قلبه، ومتى انغلق قلبه انغلق فكره، وعندئذ يصير كصخرة صماء، ترجع ولا تمتص، أو كلوحة من ماء تلين للكاتب ولكن لا تحفظ ما يكتب، أو كمرآة تحكي الصورة ما دام الأصل قائمًا، فإذا سار الأصل سارت الصورة معه ولم تحتفظ المرآة بها.
بخلاف الداعي أو المعلم الرفيق الحليم ذي الأناة، فإنه يملك القلوب بالمحبة، وعندئذٍ تتفتح له القلوب التي أحبته، ومتى انفتحت إليه القلوب انفتحت إليه الأفكار، وتأثرت به وتفاعلت معه، وآتت دعوته وأعماله ثمراتها طيبة يانعة.
رفق الولاة والحكام وأضداد ذلك:
ومن الواجب على الولاة والحكام أن يرفقوا بالرعية، ولا يشقوا عليهم، فالرفق بهم حكمة رفيعة في السياسة، والعنف يورث الكراهية والتذمر والضجر والخروج عن الطاعة، وفساد أمر الجماعة.
لذلك دعا الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به.
ودعاء الرسول هذا مستجاب، وهو تأكيد لسنة الله في عباده القاضية بأن الجزاء من جنس العمل.
وروى البخاري ومسلم عن عائذ بن عمرو، أنه دخل على عبيد الله بن زياد، فقال: أي بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إن شر الرعاء الحطمة.
فإياك أن تكون منهم.
الرعاء: جمع الراعي. الحطمة: هو الذي يشتد على إبله أو بقره أو غنمه فيسوقها سوقًا عنيفًا بلا رحمة ولا حكمة، ويدفع بعضها إلى بعض بالعسف والضرب، حتى يحطم بعضها بعضًا، ويقتل بعضها بعضًا. والحطمة من صيغ المبالغة، وتطلق على العنيف الشديد الذي يحطم الأشياء ويكسرها بعنفه وقسوته. ولما كانت النار تحطم ما تمسه سميت في القرآن الحطمة.
فأبان الرسول صلى الله عليه وسلم أن شر الرعاة من الولاة والحكام هم الذين يشتدون عليهم ولا يرفقون بهم، ويدفعونهم بالعسف والعنف إلى أن يحطم بعضهم بعضًا، ويكسر بعضهم بعضًا، ويقتل بعضهم بعضًا.
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:
إن شر الرعاء الحطمة
مثلًا لكل راعٍ عنيف قاسٍ شديد لا رحمة في قلبه على رعيته من الناس، سواءٌ أكان ولي أسرة، أو صاحب سلطان، صغرت دائرة رعيته أو كبرت.
فشر الرعاة من الناس على الناس هو الحطمة الذي لا رفق عنده، ولا رحمة في قلبه تلين سياسته وقيادته، فهو يقسو ويشتد على رعيته، ويوسعهم عسفًا وتحطيمًا، ويدفعهم دائمًا إلى المآزق والمحرجات، ولا يعاملهم بالرفق والحكمة في الإدارة والسياسة.
ومن ترك واجب الرفق احتجاب الراعي عن رعيته، وعدم اهتمامه بحاجاتهم ومصالحهم، وعدم نظره في خلاتهم وفقرهم، فمن فعل ذلك جازاه الله يوم القيامة بمثل عمله.
روى أبو داود والترمذي عن أبي مريم الأزدي، أنه قال لمعاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة.
فجعل معاوية رجلًا على حوائج الناس.
وشرٌ من ذلك غش الراعي لرعيته وظلمه لهم:
روى البخاري ومسلم عن أبي يعلى معقل بن يسار، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة.
وفي رواية:
فلم يحطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة.
وفي رواية عند مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة