موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصبر وفروعه وظواهره السلوكية(7- الحلم، من فروع خلق الصبر)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصبر وفروعه وظواهره السلوكية(7- الحلم، من فروع خلق الصبر)
273 0

الوصف

                                                     الصبر وفروعه وظواهره السلوكية

                                                      7- الحلم، من فروع خلق الصبر
                   الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل السادس: الصبر وفروعه وظواهره السلوكية >>

7- الحلم، من فروع خلق الصبر

ومن فروع خلق الصبر الحلم، إذ الحلم هو الأناة والتثبت في الأمر، وما يلزم عن ذلك من ضبط للنفس عن الغضب، وكظم للغيط، وعفوٍ عن السيئة.

والحليم هو ذو الأناة الذي لا يستفزه الغضب إذا واجه ما يغضبه، ولا يتسرع بالعقوبة، بل يضبط نفسه، ويتريث، وبعد الأناة يتصرف على وفق مقتضيات الحكمة، وكل ذلك لا يكون إلا بضبط النفس عن الاندفاع بعوامل الغضب، وهو وجه من وجوه الصبر.

ولما كان الحلم أحد فروع الصبر جاء في أسماء الله الحسنى اسم الله (الحليم) وقد ذكر العلماء أن معناه الصبور الذي لا يستخفه سبحانه عصيان العصاة ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقدارًا فهو منتهٍ إليه. وذكروا أيضًا أن معناه الذي لا يعجل بالانتقام من عباده المجرمين، ليفسح لهم مجالات التوبة والندم، وليقيم الحجة عليهم بأنهم لم يصلحوا قلوبهم وأعمالهم بعد الحلم الطويل بهم. وهذه المعاني لا تخرج عن معاني الصبر، وفي وصف الله تعالى بأنه حليم قال عز وجل في سورة (الأحزاب 33):

(وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51))

الصفات الخلقية المضادة لصفة الحلم:

أما الصفات الخلقية المضادة لصفة الحلم فأمرها ظاهر من تعريف خلق الحلم. وهي:

1- العجلة الرعناء في تصريف الأمور، وفي القيام بالأعمال، وفي الحكم على الأشياء، واستعجال الأشياء قبل أوانها، والسرعة في العقاب دون إمهال تقتضيه الحكمة التربوية.

2- الطيش كلما ثارت في النفس ثائرة، وكلما تحرك في النفس دافع من الدوافع لتحقيق مطلب من المطالب.

3- سرعة الغضب حينما يصطدم الإنسان بما يثير غضبه أو يخالف هواه.

وليس من الحلم التباطؤ والكسل، والتواني والإهمال، وتبلد الطبع عند مثيرات الغضب، ونحو ذلك، بل هذه أمور مضادة أيضًا لخلق الحلم.

إن الحلم فضيلة تقع بين رذيلتين متباعدتين، في طرفين متقابلين، فمن وراء يمين الحلم يأتي التباطؤ والكسل، والتواني والإهمال، وتبلد الطبع عند مثيرات الغضب، ونحو ذلك. ومن وراء يسار الحلم يأتي التسرع في الأمور، واستعجال الأشياء قبل أوانها، والاستجابة السريعة لمثيرات الغضب، ونحو ذلك.

ولما كان الحلم هو الفضيلة الخلقية التي تأتي بالخير، وتدل على سلامة المزاج واعتداله، وعدم جنوحه ذات اليمين أو ذات الشمال، كان ما يتجاوزه يمينًا أو شمالًا منافيًا له، ونقصانًا خلقيًّا لا يأتي بالخير المطلوب، بل قد يأتي بالشر والضر أو الأذى.

فالذي جعل الحلم فضيلة خلقية هو اعتداله، ومسايرته لمقتضى العقل السليم، والآثار النافعة المفيدة الخيرة التي تترتب عليه.

وباستطاعتنا أن نصور الحلم بأنه فضيلة خلقية نافعة، تقع في قمة عالية دونها منحدرات. فهو أناة حكيمة بين التسرع والإهمال أو التواني، وضبط للنفس بين الغضب وبلادة الطبع، ورزانة بين الطيش وجمود الإحساس، وهكذا.

وللحلم دائرة ذات حدود فما خرج عنها إلى غيرها أضر وأفسد، وخرج من دائرة الفضيلة.

وما قد يسمى حلمًا إذا أدى إلى ما لا تحمد عقباه فهو ليس بحلم، وهو حينئذٍ ليس فضيلة خلقية، وتسميته حلمًا خطأ في التقدير، بل هو في حقيقته تباطؤٌ أو إهمالٌ لا حلم.

هل للذكاء علاقة في اكتساب خلق الحلم؟

الذي تؤيده الملاحظة وتدعمه التجربة، أنه لا يوجد ارتباط حتمي بين الأخلاق عامة ومنها خلق الحلم وبين مستويات الذكاء؛ لأننا نجد مختلف المتناقضات الخلقية في كل مستوى من مستويات الذكاء، فقد نجد الطيش وسرعة الغضب عند الأذكياء، بتأثير طباعهم الخلقية، وقد نجد الحلم عند متوسطي الذكاء ومن هم دون ذلك، بتأثير طباعهم الخلقية، وهكذا فقد نجد الحلم وضده، وقد نجد الشجاعة وضدها، والجود وضده، والأمانة وضدها، في كل مستويات الذكاء، وذلك كله يرجع إلى الطبع الفطري أو المكتسب.

لكن استجابة الأذكياء لاكتساب خلق الحلم وغيره من فضائل الأخلاق، أسرع من استجابة ضعاف الذكاء في كثير من الأحيان، مع تساوي نسبة الطبع الفطري، وذلك لأن الأذكياء أقدر على استيعاب فوائد الحلم أو غيره من فضائل الأخلاق، وإدراك المنافع التي تجنى منه.

واكتساب خلق الحلم شأنه كشأن اكتساب سائر الأخلاق، فهي جميعًا قابلة للاكتساب كما سبق في الباب الأول من هذا الكتاب، وقد جاء في الأثر بخصوص الحلم: "الحلم بالتحلم، والعلم بالتعلم" أي: إن التدرب على الحلم والتكلف له من الوسائل التي تنقل غير الحليم فتجعله حليمًا بنسبة ما.

ومما لا شك فيه أن للإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر دورًا كبيرًا جدًّا مؤثرًا وفعالًا في اكتساب كل الفضائل الخلقية والسلوكية، وذلك لأن الإيمان العميق الصادق يولد في الأنفس عاطفة قوية قادرة على مغالبة عواطف النفس الأخرى، ومقاومة طباعها وغرائزها، أو توجيهها لما فيه أفضل العواقب وأحسن النتائج، أو التغلب عليها وإلجامها بلجام التقوى.

فالمؤمن الذي يعلم فضل الحلم عند الله، ويلاحظ الثواب العظيم الذي أعده الله للحلماء، لا بد أن يجد في نفسه اندفاعًا قويًّا لاكتساب فضيلة الحلم، ولو على سبيل التكلف ومغالبة النفس، وبعد التدرب خلال مدة من الزمن قد تطول أو لا تطول فقد يصبح الحلم سجية خلقية مكتسبة، ولو لم يكن في الأصل طبعًا فطريًّا.

بين الحلم والعقل:

ولكن يوجد ارتباط إيجابي قوي بين الحلم والعقل، وذلك لأن العقل السوي هو الذي يعقل صاحبه عن الاندفاع وراء عواطفه وغرائزه، أو وراء انفعالاته وشهواته، أو وراء طبائعه النارية، أو وراء كل ما يميل به إلى الجنوح والانحراف.

فالعقل شيء الذكاء العلمي أو الذكاء العملي شيء آخر، وقد سبق بيان هذا في مبحث خاص.

توجيه الإسلام للتخلق بخلق الحلم:

1- من تمجيد الحلم وتعظيم أمره، وتمجيد الأناة التي هي من الحلم أو قرينته، روى الإمام مسلم في صحيحه، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس:

إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة.

وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا من البيان التفصيلي لقول الله تعالى: (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين) لأن الحلم والأناة من فروع الصبر كما وضح لدينا.

2- وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حليمًا، وقد أعطانا دروسًا عملية وقولية في خلق الحلم، منها قصة الأعرابي الجاهل بحرمة المساجد، إذ بال في المسجد النبوي.

روى البخاري، عن أبي هريرة، قال: بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

دعوه، وأريقوا على بوله سجلًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين.

السجل: هو الدلو المملوء ماءً.

فقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا أصحابه كيف يكون الحلم بالجاهلين، وكيف يكون الرفق بهم، وكيف يجب أن يكون الدعاة إلى الله والحق والخير والفضيلة ميسرين لا معسرين.

وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه، مه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لا تزرموه، دعوه

قال أنس: فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له:

إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن

أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال أنس: وأمر رجلًا من القوم فجاء بدلوٍ من ماءٍ فسنه عليه.

لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله.

فسنه عليه: أي فصبه على المكان الذي بال الأعرابي فيه، لتطهير المكان من النجاسة.

في هذه الرواية عن أنس زيادة رائعة، تبين حكمة الرسول التربوية لهذا الأعرابي الجاهل بآداب المساجد، وهي تدل على حلم الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى رفقه وحسن سياسته، وهذا الخلق العظيم هو الخلق الذي ملك به قلوب أصحابه، وفرض به احترامه على أعدائه.

3- ومن حلم الرسول صلى الله عليه وسلم عدم دعائه على الذين آذوه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم فيهلكهم الله، ولحلمه بهم غاية يهدف إليها، فهو يرحمهم لعلهم بعد مدة يؤمنون فينجون من عذاب النار، فيحلم بهم رجاء إصلاحهم.

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود، قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء صلوات الله عليهم، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:

اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من أحد؟ قال:

لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيته منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين (أي: الجبلين المحيطين بمكة) فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا.

وهكذا كان حلم الرسول صلى الله عليه وسلم حلمًا عظيمًا، في أقسى حالات الشدة التي واجهها من قبل قومه.

وسيأتي مزيد من الأمثلة على حلم الرسول صلوات الله عليه.

4- وكما رغب الإسلام بالحلم وحث عليه ومجده حذر من الأخلاق المنافية له، وعمل على تربية المسلمين تربية عملية تأخذ بأيديهم حتى يكونوا حلماء.

الغضب:

فمن التحذيرات النبوية من الغضب، أي: من الاستجابة لدوافع