موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصبر وفروعه وظواهره السلوكية(6- الصبر من صفات الدعاة)
الوصف
الصبر وفروعه وظواهره السلوكية
6- الصبر من صفات الدعاة
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل السادس: الصبر وفروعه وظواهره السلوكية >>
6- خلق الصبر من الأركان الأساسية التي يجب أن يتحلى بها الدعاة إلى الله
يجب أن يتحلى الدعاة إلى الله وإلى كل حق وخير وفضيلة بخلق الصبر، فكل حامل لواء دعوة لا يتحلى بخلق الصبر محكوم عليه بالفشل، ومحكوم عليه بعدم النجاح في تأدية رسالته، هذه سنة ثابتة من السنن التي يعرفها كل الدعاة الناجحين. ورب دعوة باطلة كتب لها النجاح بسر صبر أربابها، ورب دعوة حقة لم يكتب لها النجاح بسبب أن حملتها كان ينقصهم الصبر.
ولذلك كان الدعاة إلى الله من الأنبياء والمرسلين متحلين بخلق الصبر في دعوتهم، وفي أداء رسالتهم، وتاريخهم في دعواتهم يثبت هذه الصفة لهم، وأمر الله لهم بالصبر يؤكد ذلك.
ولئن كان بعض الرسل أكثر صبرًا وأكثر عزمًا من بعض، فإنهم جميعًا قد تحلوا بنسبة عالية من الصبر، وإن تفاوتوا فيما بينهم، فمنهم أولو العزم، ومنهم دون ذلك.
صبر نوح على قومه:
وقد ضرب نوح عليه السلام مثلًا فريدًا في الصبر على قومه، إذ بلغ من صبره في دعوته لأجيال قومه أنه لبث يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عامًا، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة (العنكبوت 29):
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15))
وجاء في القرآن تفصيل لواقع صبره في دعوته لقومه، ويحكي الله دعاءه لربه فيقول تعالى في سورة (نوح 71):
(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10))
صبر إبراهيم:
وضرب إبراهيم عليه السلام مثالًا رائعًا في الصبر، إذ تعرض من أجل دعوته لربه للقذف في النار العظيمة، فصبر، ولم يضطرب، ولم يجزع، ولم يشك، وأنجاه الله بآية كبرى؛ فقال الله للنار: (كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) فكانت بردًا وسلامًا عليه، ثم هاجر من بلاده التي يسيطر عليها النمروذ، وقال: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)
صبر سائر المرسلين:
وضرب موسى وعيسى وكثير من المرسلين أمثلة رائعة في الصبر، فلم يهنوا، ولم يضعفوا، ولم يقصروا فيما أمرهم الله به من التبليغ.
وضرب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أروع أمثلة الصبر في دعوته قومه إلى سبيل ربه.
وضرب سائر أنبياء الله ورسله ومعهم ربيون كثيرون أمثلة عالية في الصبر، حتى يونس عليه السلام، فإنه قد صبر في دعوته لقومه، إلا أنه استعجل قليلًا، فلم يعتصم بما كان ينبغي له من الصبر، فترك قومه مغاضبًا لهم، إذ ظن أن الله لا يضيق عليه في ذلك، ومن أجل ذلك آخذه الله، فقضى عليه بأن يقذف في اليم، وأن يلتقمه الحوت وهو مليم، ثم أنجاه الله فنبذه بالعراء وهو سقيم، وأنبت عليه شجرة من يقطين. ولما شفاه الله أمره بأن يرجع إلى قومه، وأخبره بأنهم قد اتعظوا بنذر العذاب، وأصبحوا مؤمنين.
تكليف الدعاة بالصبر:
1- أمر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، حتى يؤدي واجب التبليغ والهداية إلى سبيل الله أحسن أداء، فقال له في سورة (الأحقاف 46):
(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35))
ففي هذه الآية يعظ الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يصبر في دعوته إلى سبيل ربه، كما صبر أولو العزم من الرسل الذين سبقوه، صلوات الله عليهم أجمعين.
ولا تستعجل لهم: أي ولا تستعجل من ربك معاقبة الذين كذبوك وآذوك من قومك، فإن طبيعة دعوة الأمم إلى سبيل الهدى تستوجب التحلي بخلق الصبر، إذ ليس من السهل أن تستجيب الأمم للدعوات التي تخالف أوضاعها، وتقاليدها، ومفاهيمها، قبل مرور فترة زمنية كافية لإحداث التغييرات المطلوبة. إن التغيير لأوضاع الأمم وتقاليدها، وعائدها ومفاهيمها، لا بد أن يسبقه علاج واسع النطاق تتخذ فيه مختلف الوسائل التربوية الحكيمة، الإقناعية والتجريبية والإلزامية، مع ما يرافقها من ترغيب وترهيب، وهذا يحتاج إلى فترة زمنية كافية لبناء الشعوب بناءً جديدًا، وتغيير أوضاعها الموروثة. فاستعجال النتائج، أو استعجال العقاب للأمم، خروجٌ عن سنة الحياة، ومعارضة لأحد القوانين الجماعية الثابتة. ولذلك كان الدعاة إلى الله مأمورين بالصبر، مهما نالهم من أقوامهم من أذىً ونكر، ومتى انتهت الفترة الكافية للإصلاح دون أن تستجيب الأمم لدعاتها الربانيين يأتي النصر الإلهي لأولياء الله على أولياء الشيطان، والله يمهل مهما اقتضت الحكمة الإمهال، حتى إذا غدا الإمهال أمرًا غير ذي فائدة ترجى فإن الله تبارك وتعالى لا يمهل، بل يأخذ بالعقاب العادل، ويؤدب على البغي والطغيان والفساد في الأرض. هذا ما أشار إليه قول الله تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ) وهذا الذي يرونه في الدنيا إنما هو الهلاك، ويدل عليه البلاغ الذي جاء في آخر النص: (بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)
ومن البديع في هذا النص أنه تضمن بيان سبب إهلاك الله للأمم، مع الحصر الدال على أنه ليس للإهلاك سبب غير الفسق الذي ينتشر فيها، ويلازمها حتى يكون أحد صفاتها الثابتة. وقد أعلنت هذه السنة من سنن الله في الأمم على صيغة بلاغ.
أي: لا يهلك إهلاكًا عامًا غيرهم.
2- ويوجه الله الدعاة للتحلي بفضيلة خلق الصبر، فيقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سورة (النحل 16):
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128))
ففي هذا النص يأمر الله رسوله بأن يصبر في مجال دعوته إلى سبيل ربه فيقول له: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ)
ويلحق بالرسول كل داعٍ إلى الله.
ويظهر من هذا النص أن موقف الرسول مع قومه يتلخص بأمور أربعة، ولكل منها توجيه خاص به أرشد إليه النص:
الأمر الأول:
هو وظيفة الرسول الأولى بالنسبة إلى قومه، وهي الدعوة إلى سبيل ربه.
والتوجيه الرباني حول هذه الوظيفة يتلخص بأن تكون الدعوة مقترنة بالحكمة وبالموعظة الحسنة في كل أحوالها.
ثم إذا قتضى الحال شيئًا من الجدال فالتوجيه عندئذ يطالب بأن يكون الجدال بالتي هي أحسن.
هذا ما دل عليه قول الله تعالى في النص: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
الأمر الثاني:
هو ما يتعرض له الرسول من أذى قومه له.
والتوجيه الرباني حول هذا الأمر يتلخص بخطتين:
إحداهما تدخل في باب العدل، والأخرى تدخل في باب الإحسان.
وخطة العدل تسمح بالمعاقبة بالمثل، وقد دل عليها في النص قول الله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) إلا أن الله تبارك وتعالى يحث في مجال الدعوة على اتخاذ خطة الإحسان.
وخطة الإحسان تقضي بالاعتصام بالصبر، ومع الصبر قد يكون العفو عن السيئة، ودل على خطة الإحسان قول الله تعالى في النص: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ)
وفي هذا إرشاد إلى أن اكتساب فضيلة الصبر على الأذى إنما يكون بالاستعانة بالله ومراقبة ما أعد الله من أجرٍ للصابرين.
الأمر الثالث:
هو حالة الرسول النفسية تجاه عدم استجابة القوم لدعوته.
وقد استدعت هذه الحالة توجيهًا ربانيًّا خاصًا له بأن لا يحزن على من أصر على عناده وكفره، بعد معالجته بوسائل الدعوة المختلفة، وقد جاء هذا التوجيه في قول الله تعالى في النص: (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)
الأمر الرابع:
هو حالة الرسول العامة تجاه أنواع المكر التي يدبرها المعاندون المكذبون، ضد الرسول ودعوته.
وقد استدعت هذه الحالة توجيهًا خاصًا أيضًا للرسول بأن لا يكون في ضيق مما يمكرون، فإن الله ناصره ومفسدٌ خطط مكر أعدائه، وقد جاء هذا التوجيه في قول الله تعالى في النص: (وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128))
وما خوطب به الرسول في ذلك كله يعتبر خطابًا لكل الدعاة إلى الله، والمفروض في كل مسلم أن يكون داعيًا إلى الله على مقداره.
ليس من شأن الدعاة إلى الله اليأس والقنوط:
لما كانت وظيفة الداعي إلى الله التبليغ، ولم تكن وظيفته تحويل الناس إلى الهداية ولا إكراههم عليها