موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصبر وفروعه وظواهره السلوكية(3- الصبر ضرورة حياتية)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصبر وفروعه وظواهره السلوكية(3- الصبر ضرورة حياتية)
205 0

الوصف

                                                   الصبر وفروعه وظواهره السلوكية

                                                   3- الصبر ضرورة حياتية

             الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل السادس: الصبر وفروعه وظواهره السلوكية >>

3- الصبر ضرورة حياتية لكل عمل نافع إيجابي أو سلبي

حين نتأمل في المجالات التي تحتاج إلى صبر في حياة الإنسان، يتبين لنا أن الصبر ضرورة حياتية لكل عمل نافع، إيجابيًّا كان أو سلبيًّا.

إن كسب الرزق يحتاج إلى صبر، ومعاملة الناس تحتاج إلى صبر، والقيام بالواجبات والمطلوبات الدينية يحتاج إلى صبر، والكف عن المحرمات والمكروهات يحتاج إلى صبر، والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى صبر، ومقارعة شدائد الحياة ومقاومة مكارهها وتحمل تكاليفها يحتاج إلى صبر، وهكذا إلى سائر الأعمال التي يمارسها الإنسان في حياته، سلبيةً كانت أو إيجابية، فهي تحتاج إلى صبر.

يشهد لهذا واقع حال الإنسان مهما اختلفت ظروف حياته، وتدل عليه أيضًا النصوص الدينية:

1- فمن الأدلة التي تدل على أن القيام بالواجبات الدينية يحتاج إلى صبر، قول الله تعالى في سورة (مريم 19):

(وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65))

هل تعلم له سميًّا: أي هل تعلم له شبيهًا يشبهه في صفاته العلية، سبحانه وتعالى عن الشبيه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فله تبارك وتعالى الوحدانية في ربوبيته والوحدانية في ألوهيته.

في هذا النص القرآني، نلاحظ أن الله تبارك وتعالى، حين أمر بعبادته أرشد إلى الاعتصام بالصبر الزائد، فقال تعالى: (وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) وصيغة "اصطبر" مأخوذة من "اصبر" مع زيادة التاء التي تدل على التكلف والمبالغة، ثم قلبت التاء طاءً لوقوعها بعد حرف الصاد، كما هي القاعدة العربية في مثل ذلك.

ولما كانت عبادة الله تشمل فعل ما أمر به أو رغب بفعله، وترك ما نهى عن فعله أو رغب بتركه، وكانت العبادة تحتاج إلى اصطبار، كان المقصود بالصبر المطلوب الصبر على فعل الطاعات، والصبر على ترك المخالفات، سواء أكانت محرمات أو مكروهات أو دون ذلك.

2- ومن الأدلة التي تدل على أن مخالطة الناس والتعامل معهم من الأمور التي تحتاج إلى صبر، قول الله تعالى في سورة (الفرقان 25):

(وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20))

فهذه الآية تدل على أن من ضمن مجالات الامتحان الرباني للناس، امتحان بعضهم ببعض، والنجاح في هذا الامتحان يحتاج إلى صبر، ولذلك قال الله تعالى: (أَتَصْبِرُونَ) ؟ أي: أتصبرون حتى تظفروا بالنجاح في الامتحان الرباني لكم.

ونستطيع أن نستخلص من هذا قاعدة عامة فنقول: إن جميع صور الامتحان الرباني تحتاج إلى صبر، والله تبارك وتعالى يمتحن في التكاليف التي يأمرنا بها خضوعنا لأمره ونهيه، ومدى صبرنا على طاعته، في فعل ما يأمرنا به، وفي اجتناب ما ينهانا عنه.

3- ومن الأدلة التي تدل على أن الجهاد في سبيل الله يحتاج إلى صبر عظيم لما فيه من تعرض للتضحية بالنفس والجود بها ابتغاء مرضاة الله -والجود بالنفس أقصى غاية الجود، لذلك يأمرنا الله بالجهاد، وبالصبر العظيم فيه- قول الله تعالى في سورة (آل عمران 3):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200))

ففي هذه الآية يأمر الله الذين آمنوا بالصبر، ويأمرهم بالمصابرة، والمصابرة فيها مغالبة للخصوم بالصبر، فإذا صبر العدو في قتال المؤمنين، فعلى المؤمنين أن يغالبوه بالصبر، فيصبروا أكثر منه، حتى يكسروا بصبرهم صلابة صبره.

وأجدر الخصمين المتقاتلين بالظفر أكثرهما صبرًا، ما داما متكافئين أو متقاربين في القوة والعدة، يضاف إلى ذلك أن المؤمنين يملكون من القوى المعنوية ضعف ما لدى أعدائهم في الحد الأدنى الواجب، وعشرة أضعاف ما لدى أعدائهم في الحد الأقصى المندوب إليه لدى كمال الإيمان.

ومن الأدلة أيضًا في هذا المجال، قول الله تعالى في سورة (الأنفال 8):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46))

ففي هذا النص يأمر الله الذين آمنوا بأن يثبتوا ويصبروا إذا لقوا عدوهم في معركة من معارك القتال، ففي الثبات والصبر مع سلامة الغاية، وطاعة الله ورسوله، والاشتغال بذكر الله، ووحدة الصف والقيادة، وتحقيق الشروط المادية التي منها إعداد المستطاع من القوة، يتحقق النصر المحبوب المرغوب؛ لأن الله عندئذٍ يكون مع المؤمنين مؤيدًا وناصرًا، ولا يكلهم إلى أنفسهم، دل على ذلك: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)

4- ومن الأدلة التي تدل على أن الدراسة والبحث العلمي في الظواهر الكونية، والاجتهاد لاستنباط آيات الله فيها، وكذلك الاجتهاد لاستخراج أحكام الشريعة من مصادرها، أمور تحتاج إلى دأبٍ طويل، وصبرٍ جميل، فلا يقوم بها إلا كل صبار، قول الله تعالى في سورة (لقمان 31):

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31))

فدل هذا النص على أن البحث في هذه الظواهر الكونية لا بد أن يوصل إلى الإيمان العميق بأن الله هو الحق، ولكن هذا البحث العلمي إنما يتابعه كل صبار على البحث والمتابعة، وينتفع بنتائج البحث فيؤمن بالله ويطمئن لعبادته كل شكور لأنعم الله عليه.

فالذي يرى آيات الله في الظواهر الكونية وينتفع بها هو كل صبار شكور.

وكذلك الذي يتدبر آيات الله المنزلة في كتابه، ويستنبط منها ما اشتملت عليه من دلالات وأحكام وعلوم وعظات.

5- وكظم الغيظ، وإخماد جذوة الغضب، والدفع بالتي هي أحسن، أمور تحتاج إلى حظ عظيم من خلق الصبر، فالذي لا يتحلى بخلق الصبر لا يستطيع أن يكظم غيظه، ولا يستطيع أن يسكن غضبه، ولا يستطيع أن يدفع بالتي هي أحسن، دلت الملاحظة على هذه الحقيقة، ومن الأدلة الإسلامية التي دلت عليها أيضًا قول الله تعالى في سورة (فصلت 41):

(وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36))

فالله تبارك وتعالى يأمر في هذا النص بدفع السيئة بالتي هي أحسن، ثم يقول: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا) فدل بهذا على أن هذه الظاهرة من مكارم الأخلاق أثر من آثار خلق الصبر.

من الملاحظ في المعاملات الاجتماعية بين الناس أن بعضهم قد يسيئون إلى إخوانهم إساءات مختلفة، في ألسنتهم، في أيديهم، في غير ذلك من جوارحهم، في تصرفاتهم المالية أو غير المالية، والإساءة قد تمس النفس، أو تمس العرض والشرف، أو تمس المال والمتاع، أو تمس الأهل والعشيرة، أو تمس أي حق من الحقوق.

والله تعالى يأمر المؤمن في هذا النص بأن يدفع السيئة التي تأتيه من أخيه، بالخصلة التي هي أحسن، والخصلة التي هي أحسن من رد السيئة بمثلها إنما هي العفو والإحسان، أو الإعراض وكف الأخذ والرد في موضوع الإساءة.

وللدفع بالتي هي أحسن ثمراتٌ اجتماعية عظيمة، منها تحويل العدو المجابه بما يسوء ويؤذي إلى نصير مدافع وصديق حميم، وهذا ما نبه عليه وأوضحه قول الله تعالى:(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)

وما أحوج القادة والموجهين إلى هذا الخلق العظيم، بل ما أحوج كل إنسان إليه، إنه أحد المظاهر الاجتماعية لخلق الصبر، وهو الدواء المرمم لما يبلى أو يتهدم من الروابط الاجتماعية، والمصلح لما يفسد منها، والمجدد لما يفنى منها، ومن أجل ذلك أمر الله به، وأثنى على من يتحلى به ثناءً عظيمًا، فقال تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي: ذو حظ عظيم من مكارم الأخلاق وفضائل السلوك، وهو عند الله يوم الدين ذو حظ عظيم من الأجر والمنزلة الرفيعة في دار النعيم، إذا كان يدفع السيئة بالتي هي أحسن ابتغاء مرضاة الله، والله تبارك وتعالى يكافئه بمثل عمله، فيعفو عن سيئاته، ويكفر له خطيئاته، ويضاعف له أجره أضعافًا كثيرة، كل هذا من الحظ العظيم الذي يناله.

في مقدمة هذا النص جاء قول الله تعالى: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ) ثم جاء بعده مباشرة قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) على طريقة تقرير القاعدة الكلية العامة، ثم التوجيه إلى الأخذ بجزئية من جزئياتها.

إن إيراد القاعدة الكلية العامة: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ) بمثابة إقامة الدليل على كمال الدفع بالتي هي أحسن قبل الأمر به، وفي إيراد هذه القاعدة إعلان لحقيقة لا ينكرها عاقل، وهي أن الحسنة تقع في مرتبة الكمال، وأن السيئة تقع في حضيض النقصان، وهذان الضدان لا يستويان، كيف يستويان وأحدهما صاعدٌ شطر القمة، والآخر هابط شطر الحضيض؟!

إذا كان الأمر كذلك ففاعل الحسنة لا يمكن أن يستوي مع فاعل السيئة،