موسوعةالأخلاق الإسلامية-المحبة للآخرين(ضابط المحبة العاقلة وثمراتها)
الوصف
المحبة للآخرين
ضابط المحبة العاقلة وثمراتها
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الخامس: المحبة للآخرين >> 5- في الحب السامي
ضابط المحبة العاقلة وثمراتها:
للمحبة ضابط يصونها في حدود المحبة العاقلة الحكيمة، ويلجمها حتى لا تتجاوز هذه الحدود فتغدو محبة رعناء مفسدة غير مصلحة.
إنه ضابط قصير العبارة، إلا أنه واسع الدلالة، شامل كل صغيرة وكبيرة في مجال المحبة، هذا الضابط هو أن يكون الحب في الله، أي في طاعة الله.
وفي مقابله يأتي ضابط الطرف المقابل وهو البغض، فضابطه أن يكون بغضًا في الله، أي: في طاعة الله.
فالمسلم الصادق في إسلامه، المتأدب بآداب دينه، المتلزم لتعاليمه، هو الذي يحب في الله ويبغض في الله. إنه متى فعل ذلك استقام أمره، وكانت محبته عاقلة حكيمة، وكان بغضه حسنًا رشيدًا، فهو يحب بحبه لله ما يحبه الله، ومن يحبه الله، وما أمر الله بمحبته، ومن أمر الله بمحبته. ويبغض بحبه لله ما يبغضه الله، ومن يبغضه الله، وما أمر الله ببغضه وكراهيته، ومن أمر الله ببغضه.
ولذلك نلاحظ أن المحبة التي دعا إليها الإسلام تكاد لا تذكر في نصوصه إلا مقترنة بهذا الضابط.
وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله
ومن أحب لله فلا بد أن يتقيد في معاملته من يحب بموجب طاعة الله.
ويلاحظ في الحديث الترتيب في توجيه المحبة:
ففي المرتبة الأولى والعليا تأتي محبة الله ورسوله، وظاهر أن بواعث الإيمان تدعو إلى إعطاء هذه المحبة أعظم نصيب.
* وبهذا نرى أن الطريق الأقوم للمحبة هو ما كان عن طريق محبة الله أولًا، ثم عن طريق محبة حامل لواء دينه ثانيًا، ثم من كانت محبته لله وعلى مرضاته. فهذا الطريق هو الذي تصان به المحبة من كل انحراف إلى ما فيه ضرر أو فساد، وهذا هو طريق محبة المتقين.
فالمحبة التي لا تكون لله، ولا يلتزم فيها بتقوى الله، ستتحول إلى عداوة يوم القيامة، عقوبة لأصحابها من جنس عملهم، قال الله تعالى في سورة (الزخرف 43):
(الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67))
إن الأخلاء في الدنيا الذين لا يتعاملون فيما بينهم على أساس من تقوى الله، سيكونون يوم القيامة أعداءً.
ويتحسر يوم القيامة من يتخذ في الدنيا خليلًا يضله عن سبيل الله، فيقول: يا ويلتا، ليتني لم أتخذ فلانًا خليلًا، قال الله تعالى في سورة (الفرقان 25):
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً (29))
* أما المتحابون في الله فإن الله يظلهم يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويؤويهم إلى كنف محبته، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي، يوم لا ظل إلا ظلي.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل. وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل. ورجل قلبه معلق في المساجد. ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه. ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله. ورجلٍ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه.
ففي قول الرسول:
ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه
نلاحظ ثلاثة عناصر:
الأول:
أن يكون التحابب في الله، أي في حب الله، وابتغاء مرضاته، وفي دائرة طاعته.
الثاني:
أن يجتمعا إذا اجتمعا على طاعة الله، وتحقيق مرضاته، والبعد عن معاصيه.
الثالث:
أن يتفرقا إذا تفرقا على طاعة الله، وتحقيق مرضاته والبعد عن معاصيه.
ولا يخفى أن التحابب الذي تجتمع فيه هذه العناصر هو أرقى صور التحابب؛ لأنه تحابب لم تدنسه المعاصي، ولم تشبه شوائب الأغراض الخاصة، والمصالح الذاتية.
أما التحابب الذي يقوم على المنافع الشخصية الدنيوية والأهواء الخاصة، فإنه يحمل في جنباته عناصر فساده وسرعة زواله، وقديمًا كانوا يقولون: "من أحبك لغرض أبغضك عند فقده"؛ لا سيما إذا اقترنت به معصية الله، فإنه ما أسرع ما ينتهي بالتعادي والتقاطع والخصام، وكثيرًا ما ينتهي بالتقاتل وارتكاب الجرائم، وهذا من النتائج الطبيعية للتلاقي على معصية الله، فمن لم يكن عنده وفاء لنعم الله عليه بالشكر والطاعة، فكيف يكون عنده وفاء لأصدقائه ورفاقه الذين يجتمع معهم على المعصية والإثم، ويوادهم على غير طاعة الله؟ إن الله لا بد أن يعاقبهم بإلقاء العداوة فيما بينهم. ولئن بقيت فيما بينهم مظاهر التواد فهي مشبعة بعناصر النفاق والحسد، وإرادة كل منهم السوء بالآخر، أو إرادة بعضهم السوء بالبعض الآخر، ويكون طيب القلب منهم ضحية المنافقين.
بئست -والله- مودات المصالح والأهواء والأغراض الخاصة الدنيوية، لا سيما إذا اقترنت بمعصية الله؛ إنها مودات في سبيل الشيطان، وعاقبتها ندامة وخسران.
وحين يكون الحب في الله فإن الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى الثواب عليه، وحسن الجزاء والمكافأة، بموجب قانون فضله الذي يعامل به عباده، وبموجب سننه الثابتة، التي سنها لعباده في الحياة الدنيا، ولذلك يجعل الله يوم القيامة للمتحابين فيه منابر من نور يغبطون عليها، روى الترمذي بإسناد صحيح عن معاذ بن جبل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء.
هذا الحديث القدسي يبين ما للمتحابين في الله، من مجدٍ عظيم يوم القيامة، إذ كان تحاببهم في الدنيا ابتغاء مرضاة الله وعلى طاعته، ولم يكن تحاببهم ابتغاء مطامع دنيوية ومصالح شخصية، وعلى معصية الله ومخالفة أوامره ونواهيه.
* ومن الثمرات التي يظفر بها المتحابون في الله، أن الله تبارك وتعالى يكافئهم على ذلك بمحبة من عنده، فيكونون من أحباب الله كما تحابوا فيه، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
أن رجلًا زار أخًا له في قريةٍ أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه.
فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكًا: أي وكل به ملكًا يترصد على طريقه مجيئه ليسأله ما سأله، وليخبره بما أخبره به.
هل لك عليه من نعمة تربها: أي هل لك عليه معروف أنعمت به عليه، فأنت تريد تحصيل مكافأة منه على معروفك.
من هذا الحديث نلاحظ، أن الحب في الله قد بلغ من شأنه أن أنزل الله فيه ملكًا، ليخبر رجلًا صالحًا أحب أخاه في الله بأن الله يحبه كما أحب أخاه فيه.
وإذا أحب الله عبدًا نادى بأن الله يحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، فيحبه في الأرض أحباب الله، وكل ذوي القلوب النقية الصافية.
روى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض.
وإذا أبغض الله عبدًا لفجوره وتمرده وكبره وكثرة شره، بغض به جبريل، ثم أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض. روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن الله تعالى إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، ثم توضع له البغضاء في الأرض.
وروى الإمام مالك بإسناد صحيح في كتابه "الموطأ" عن التابعي أبي إدريس الخولاني، قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براق الثنايا، أي: متلامع الأسنان كأنهن حبات اللؤلؤ. وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان من الغد، هجرت هجرت: أي بكرت بالحضور إلى المسجد. فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته، حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك لله، فقال: آلله؟ قال: فقلت: ألله. فقال: آلله؟ آلله: أي أتقسم على ما تقول، فهو يستوثق منه بالقسم مرتين. فقلت: ألله. فأخذ بحبوة ردائي، فجذبني إليه، فقال: أبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في.
ومن أحبه الله أدناه منه، وزاد في إكرامه والإنعام عليه.
* ومن ثمرات محبة المقصرين للسابقين، أن يكونوا معهم في مراتبهم العلية يوم القيامة.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف تقول في رجل أحب قومًا ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
المرء مع من أحب.
وروى البخاري ومسلم عن أنس، أن أعرابيًّا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما أعددت لها؟
قال: ما أعددت لها من كثير صوم ولا صلاة ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال:
أنت مع من أحببت.
قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بها.