موسوعةالأخلاق الإسلامية-المحبة للآخرين(4- الرسول ومحبته لأمته وقومه والناس أجمعين)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-المحبة للآخرين(4- الرسول ومحبته لأمته وقومه والناس أجمعين)
202 0

الوصف

                                                    المحبة للآخرين
                                           4- الرسول ومحبته لأمته وقومه والناس أجمعين
                   الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الخامس: المحبة للآخرين >>

4- الرسول ومحبته لأمته وقومه والناس أجمعين

وفي إطار المحبة العاقلة نلاحظ أن مشاعر المحبة العامة التي كانت تتملك قلب خاتم المرسلين محمد صلوات الله وسلامه عليه، تجاه أمته وقومه والناس أجمعين، هي التي جعلته يتحرق ألمًا، من أجل الذين رفضوا الاستجابة لدعوة الإسلام، وهو يعلم أن إسلامهم هو سبيل سعادتهم، وأن عنادهم وإصرارهم على الكفر هو سبيل شقاوتهم الأبدية، وكان مثله صلوات الله عليه كمثل الأب الرحيم العاقل، إذ يرى ولده الذي يحبه، ويريد له الخير، يقذف نفسه في نارٍ حامية، وهو يظن أنها مرتع من مراتع اللذات.

لقد كانت هذه المشاعر الكريمة النابعة من أخلاقه العظيمة صلوات الله عليه، هي المحركة لكثير من عواطفه وتصرفاته، ولما زادت هذه المشاعر العظيمة في نفسه عن الحدود التي ينبغي ألا تزيد عليها، أرشده الله إلى التخفيف منها، حتى لا تؤثر على حياة الرسول نفسه صلوات الله عليه، ولذلك قال الله له في سورة (فاطر 35):

(فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8))

ففي هذه الآية يرشد الله رسوله إلى أن يخفف من مشاعر تحسره على الذين لم يستجيبوا لدعوة الإسلام من قومه، إبقاءً على نفسه، فالضال السالك سبيل الغواية بإرادته، وهو عالم غير جاهل، وقد وجهت له النصائح والبيانات والإرشادات الكافيات لإقناعه ونصحه، لا يستحق تحمل مشاعر الألم والحسرة من أجله، إنه لم يكن فيه خير لنفسه، حتى يستدر شفقة الآخرين عليه، ويستحق أن يتحملوا الآلام حسرة عليه.

وقال الله له في سورة (الكهف 18):

(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً (7))

باخع نفسك: مهلك نفسك، وقاتل لها.

والمعنى: فلعلك يا محمد مهلك نفسك وقاتل لها من الأسف والحزن عليهم، إن لم يؤمنوا بما أنزلنا عليك من القرآن، وأنت تلاحقهم بنصحك وإرشادك، وتلح عليهم بدعوتك، متابعًا آثارهم، لتردهم إلى صراط الله المستقيم، فهون على نفسك، وخفف عنها مشاعر الحزن والأسف، فهم في هذه الأرض وما فيها من زينة في دار ابتلاء، أي: في دار امتحان، وفي نتيجة الامتحان يظهر أيهم أحسن عملًا.

إذا تبصرنا بحالة الرسول هذه فإننا نجدها نابعة من مشاعر المحبة المتدفقة، التي جعلت الرسول صلوات الله عليه شديد الحرص على هداية قومه والناس أجمعين، وجعلته يحزن حزنًا عظيمًا، من أجل الذين أصروا على سلوك سبل الشقاوة معاندين مكابرين.

وقال الله تعالى له في أوائل سورة (الشعراء 26):

(طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4))

ففي هذا النص القرآني يبين الله لرسوله برفق، أن يخفف من حدة مشاعره النابعة من منابع حرصه على هداية قومه بدافع المحبة، لئلا يقتل نفسه أسفًا عليهم، ويبين له تبارك وتعالى أن الغاية امتحان إراداتهم، وأنه لو كانت الغاية إجبارهم على الإيمان لأنزل عليهم بمشيئته آية من السماء فأخضعتهم، وجعلتهم يؤمنون بسلطان القوة، لكن هذا غير مراد، إنما المراد أن يؤمن من يؤمن منهم بإرادته الحرة، التي لا قسر يسوقها، ولا إكراه يجبرها.

وقال الله تعالى له في أول سورة (طه 20):

(طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَّخْشَى (3) تَنْزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا (4))

ففي قوله تعالى لرسوله:(مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) توجيه ضمني له بأن لا يضني نفسه ويشقيها أسفًا وحزنًا على الذين لم يستجيبوا لدعوة الحق، بدافع محبة الخير لهم، والشفقة عليهم من المصير الأليم الذي ينتظرهم إذا هم تمادوا في الكفر والعناد. ثم قال الله له: (إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَّخْشَى) أي: ليست وظيفتك يا محمد تحويلهم من الكفر إلى الإيمان، حتى تشقي نفسك في السعي وراءهم، والحسرة عليهم، وإنما وظيفتك تذكيرهم وموعظتهم وإنذارهم فقط، وعندئذٍ يتذكر منهم من يخشى، وهو من تؤثر فيه المعرفة، فتحدث في قلبه الخشية من الله.

وقد تكرر في القرآن الكريم بيان الله تعالى لرسوله أن وظيفته إنما هي التذكير والموعظة والإنذار، لا إكراه الكافرين على الإيمان، ولا اتخاذ الوسائل لتحويلهم إليه تحويل خلقٍ وتكوين، فهذا أمر لو شاء الله لفعله بنفسه، ولكن تبطل به حكمة الابتلاء والامتحان في ظروف هذه الحياة الدنيا. فمن هذه النصوص ما يلي:

قول الله تعالى له في سورة (الغاشية 88):

(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ (24))

وقول الله له في سورة (الرعد 13):

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7))

أي: ما أنت بالنسبة إلى الكافرين إلا منذر لهم من عذاب يوم شديد.

وقول الله له في سورة (هود 11):

(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12))

فحدد الله مهمة الرسول بالنسبة إلى المنكرين الجاحدين المصرين على العناد بالإنذار، فقال له: (إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ)

ولدى تتبع مراحل تنزيل النصوص السابقة نجد أنها نزلت وفق التسلسل التالي:

أولًا:
آية (فاطر):(فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)

ثانيًا:
آية (طه): (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)

ثالثًا:
آية (الشعراء): (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)

رابعًا:
آية (هود): (إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)

خامسًا:
آية (الغاشية): (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ)

سادسًا:
آية (الكهف): (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) وكل هذا في المرحلة المكية.

سابعًا:
آية (الرعد): (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)

وقد نزلت في أواسط المرحلة المدنية.

ونلاحظ في هذه المتابعة منهجًا تربويًّا قصد منه معالجة نفس الرسول صلى الله عليه وسلم لتخفيف ما كان يعانيه من شدة حرصه على هداية القوم، ورغبته بتحولهم من الكفر إلى الإسلام، ومن الضلالة إلى الهدى.