موسوعةالأخلاق الإسلامية-الدافع الجماعي(اجتناب كل ما يضر المسلمين أو يؤيهم)
الوصف
الدافع الجماعي
اجتناب كل ما يضر المسلمين أو يؤيهم
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الرابع: الدافع الجماعي >>
10- من حقوق المسلمين بعضهم على بعض اجتناب كل ما يضر بهم أو يؤذيهم أو يلقي البغضاء بينهم أو يفرق جماعتهم ويمزق وحدتهم والسعي في الإصلاح ورأب الصدع
اشتملت سورة (الحجرات 49) على توجيهات وأوامر أخلاقية وافرة، تتعلق بحقوق المسلمين بعضهم على بعض، مما يفرض على المسلم اجتناب ما يضر بأخيه المسلم أو يؤذيه، أو يلقي العداوة والبغضاء بين المسلمين، أو يفرق جماعة المسلمين ويمزق وحدتهم.
وجاء في سور أخرى من القرآن الكريم وفي بيانات الرسول صلى الله عليه وسلم نصوص كثيرة تتعلق بهذه الحقوق، وفيما يلي طائفة من هذه النصوص، مع تدبر بعض توجيهاتها.
(أ) إصلاح ذات البين:
قال الله تعالى في سورة (الأنفال 8):
(وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ .... (1))
ذات البين: هي صاحبة البين، والبين في كلام العرب يأتي على وجهين متضادين: فيأتي بمعنى الفرقة، ويأتي بمعنى الوصل. وإصلاح ذات البين على المعنى الأول يكون بمعنى إصلاح صاحبة الفرقة بين المسلمين، وإصلاحها يكون بإزالة أسباب الخصام، أو بالتسامح والعفو، أو بالتراضي على وجه من الوجوه، وبهذا الإصلاح يذهب البين وتنحل عقدة الفرقة. أما إصلاح ذات البين على المعنى الثاني فيكون بمعنى إصلاح صاحبة الوصل والتحابب والتآلف بين المسلمين، وإصلاحها يكون برأب ما تصدع منها، وإزالة الفساد الذي دب إليها بسبب الخصام والتنازع على أمر من أمور الدنيا.
والله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بأن يصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين حقًا.
فمن صفات المؤمنين المتقين أنهم يصلحون ذات بينهم، فإذا نشأ بينهم وبين إخوان لهم خصام على أمر من أمور الدنيا، أسرعوا إلى إصلاحه بأنفسهم، ولو لم يتدخل بينهم وبين إخوانهم وسطاء.
فإذا اشتد أمر الخصام وجب على المسلمين أن يسعوا في الإصلاح بين المتخاصمين بمختلف الوسائل الكفيلة بإزالة أسباب الخلاف وبرأب الصدع.
وقد يصل الخلاف إلى حد التقاتل بين طائفتين من المؤمنين، وفي هذه الحال يجب على سائر المؤمنين أن يصلحوا بينهما، ضمن المنهج الذي رسمه القرآن، بقول الله تعالى في سورة (الحجرات 49):
(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10))
فأوجب الله على المؤمنين أن يصلحوا بين الذين يختصمون منهم، فقال لهم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وجعل ذلك من عناصر التقوى، فقال تعالى بعد ذلك: (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
فإذا رفضت إحدى الطائفتين المتقاتلتين أن تخضع للإصلاح بالعدل، وركبت رأسها باغية ظالمة، وجب على سائر المؤمنين أن يقاتلوا الفئة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله، وهو الإصلاح بالعدل والقسط، فإذا فاءت تم الإصلاح بينها وبين الطائفة التي هي خصمها بالعدل.
ومن هذا نلاحظ مبلغ اهتمام الإسلام بوحدة جماعة المسلمين، وحرصه الشديد على أن لا يدب الخلاف بينهم، ولا تقع الفرقة بين صفوفهم؛ لأن ذلك يوهن قواهم، ويطمع بهم عدوهم، ويقذف بهم إلى الفشل، ويُمكن أعداءهم من رقابهم.
(ب) اجتناب كل ما يسبب الخلاف والفرقة والعداوة والبغضاء:
قال الله تعالى في سورة (الحجرات 49):
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12))
ففي هذا النص ينهى الله الذين آمنوا عن قبائح اجتماعية ست، من شأنها بذر بذور الفرقة والعداوة والبغضاء، لما فيها من إيذاء وإضرار بالآخرين، وهي قبائح تشتمل على ظلم من الإنسان لأخيه الإنسان، وكل ظلم من شأنه أن يورث العداوة والبغضاء، ويوقع الفرقة بين الجماعة الواحدة.
والقبائح الست هي:
1- السخرية.
2- اللمز.
3- التنابز بالألقاب.
4- اتهام المؤمنين بالظنون الضعيفة التي لا تقوى على الاتهام.
5- التجسس على المؤمنين.
6- الغيبة للمؤمنين المتقين.
ويلاحظ أن كل نهي في هذا النص قد انفرد بلونٍ تعبيري ذي دلالة خاصة، قابلة لأن تكون شاملة للمنهيات الأخرى فيه:
* ففي السخرية: لا يسخر قومٌ من قوم.
* وفي اللمز: ولا تلمزوا أنفسكم.
* وفي التنابز: ولا تنابزوا بالألقاب.
* وفي الظن المنهي عنه: اجتنبوا.
* وفي التجسس: ولا تجسسوا.
* وفي الغيبة: ولا يغتب بعضكم بعضًا.
ويلاحظ أنه يصح في كل منها أن تستعمل التعبيرات الأخرى، لتؤدي فيه دلالتها.
فيقال: لا يسخر قوم من قوم. ولا تسخروا من أنفسكم ولا تتساخروا. واجتنبوا السخرية ولا تسخروا. ولا يسخر بعضكم من بعض.
وكذلك سائرها.
ومع ذلك فقد اختير لكل قبيحة من هذه القبائح الست الصيغة التي تدل على أبرز صورة من صورها:
1- فالسخرية:
تغلب فيها المشاركة الجماعية، إذ الساخر يضحك بسخريته آخرون.
2- واللمز:
يغلب فيه الطابع الفردي الخفي الذي يدركه أهل النباهة.
3- والنبز باللقب:
تغلب فيه المشاركة، فمن نُبِزَ نَبَزَ، كالتقاتل.
4- والتجسس:
يغلب فيه العمل الفردي ضد فرد أو جماعة، فجاء النهي عامًا.
5- والغيبة:
ظاهرة جماعية يؤذي الناس بها بعضهم بعضًا في غيبتهم، فهي كالتنابز ولكنها حركة جماعية مختلطة لا مواجهة فيها، فافترقت عن التنابز بالألقاب.
6- وظن السوء بالناس:
مثل الغيبة إلا أنه حركة نفسية، قد يكون لها آثار مادية في الاتهام.
وفيما يلي شرح موجز لهذه القبائح الست:
السخرية:
إن السخرية تنافي ما يوجبه الحق، هي ظلم قبيح من الإنسان لأخيه الإنسان وعدوان على كرامته، وإيذاء لنفسه وقلبه، ومن آثارها أنها تقطع الروابط الاجتماعية القائمة على الأخوة والتواد والتراحم، وتبذر بذور العداوة والبغضاء، وتولد الرغبة بالانتقام، ثم أعمال الانتقام، ما استطاع المظلوم بها إلى ذلك سبيلًا.
إذا بحثنا في دوافع الإنسان إلى السخرية من أخيه الإنسان، وجدناها ترجع إلى الكبر الذي يلازمه بطر الحق وغمط الناس، وإلى الرغبة بتحطيم مكانة الآخرين استئثارًا بالمكانة، أو مقاومة أفكارهم وأعمالهم بالباطل، لصد الناس عن تقديرها أو الأخذ بها، أو ترجع إلى الرغبة بالتسلية والضحك على حساب آلام الآخرين الناشئة عن احتقارهم واستصغارهم وازدرائهم، والاستهانة بأقوالهم أو أعمالهم أو خلقتهم أو طبائعهم، أو أسرهم وأنسبائهم، أو قومياتهم وعناصرهم وأصولهم، أو لغاتهم وعاداتهم وأزيائهم، إلى أشباه ذلك.
وهذا التحقير والاستصغار الذي تعبر عنه السخرية إما أن يكون له من ظاهر ما يسخر منه مبرر، وإما أن لا يكون له مبرر مطلقًا، وإنما كانت السخرية لونًا من ألوان المقاومة العدوانية لذات الشخص المسخور منه، أو لفكرته أو لعمله، وكلا الأمرين ظلم قبيح وعدوان منكر.
إذا كان الساخر يسخر من خلقة أخيه الجسدية أو الطبعية، فإنه يسخر من أمر لا يملك المسخور منه تعديله، ولو أن الله عز وجل خلق هذا الساخر كذلك لما كان ملك من أمره شيئًا، ولو أن الله ابتلى هذا الساخر بمصيبة جعلت عنده عيبًا يسخر منه السالمون، لما ملك من أمره شيئًا، فالسخرية من عيب في أصل الخلقة يحمل في مضمونه الاعتراض على الخالق، وللخالق في ابتلائه لعباده ألوان.
ثم إن المسخور منه للعيب الذي ابتلاه الله به في أصل التكوين، أو في عوارض المصائب، ربما يكون في دخيلة نفسه، أو في خلقه وعمله، خيرًا وأفضل من الساخر بكثير، فليست ميز الإنسان وفضائله محصورة في حدود جسده أو بعض أعماله، بل توجد فيه أمور أعظم من ذلك، هي عقله وإيمانه وطهارة قلبه، وتقواه وابتغاؤه الخير، وجوده وإحسانه، إلى غير ذلك من أمور كثيرة، وهذا ما دل عليه قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ)
وإذا كان الساخر يسخر من أسرة أخيه أو نسبه أو قوميته أو عنصره أو لغته أو عادات قومه أو أزيائهم، فهو يسخر أيضًا من أمر لا يملكه المسخور منه؛ لأنها تدخل ضمن سلطة القدر الجبري، وهو أيضًا يحمل في مضمونه الاعتراض على الخالق في مقاديره، وما يبتلي به عباده.
وإذا كان الساخر يسخر من عمل أخيه وإنتاجه لما فيه من نقص أو عيب، فهو إما أن يسخر من ملكاتٍ فطرية لا يملك المسخور منه تعديلها، وإما أن يسخر من تقصيره وإهماله. أما السخرية من الملكات الفطرية فهي اعتراض على المقادير، وأما السخرية من الإهمال والتقصير في العمل ففيها ادعاء ضمني أن الساخر لا يقع بمثل هذا التقصير أو الإهمال، مع أن الواقع قد يشهد بأن الساخر ربما كان له من النقائص الإرادية ما هو أكثر بكثير مما سخر منه، حتى الشيء الذي سخر منه ربما لا يستطيع الساخر عمل مثله؛ لأنه أعجز من ذلك، وعلى فرض قدرته على ما هو أحسن فإن سخريته ذات تأثير سيئٍ على روابط الأخوة الإيم