موسوعةالأخلاق الإسلامية-الدافع الجماعي(التآخي في الله)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الدافع الجماعي(التآخي في الله)
229 0

الوصف

                                                    الدافع الجماعي

                                                    التآخي في الله
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الرابع: الدافع الجماعي >>

6- التآخي في الله، والتحابب والتوادد، وما يتصل بذلك

(أ) التآخي والتحابب والتوادد في الله:

من تعميق معاني الجماعة في نفوس المسلمين، وتأصيلها في قلوبهم، وتنميتها وتوسيع دائرتها، ما نلاحظه في الإسلام من الدعوة إلى التآخي في الله، والتحابب والتوادد، وأنواع الصلات المادية التي تمكن ذلك في قلوب أفراد المسلمين، مع ترتيب الأجر العظيم عليها.

وتظهر هذه الدعوة في نصوص إسلامية كثيرة، منها ما يلي:

1- روى الإمام مالك عن معاذ بن جبل بإسنادٍ صحيح قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في.

وفي رواية عند الترمذي قال:

يقول الله تعالى: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء.

وروى أبو داود بسنده عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله.

قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم؟

قال:

هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموالٍ يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس.

وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية من سورة (يونس 10):

(أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62))

2- وإذ عقد الله الأخوة بين المؤمنين، أبان الرسول صلى الله عليه وسلم أن إيمان المؤمن لا يتم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ففي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:

لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

(رواه البخاري ومسلم عن أنس).

هذه المحبة الاجتماعية تجعل الإنسان يحب الحق؛ لأن الحق هو الذي يتم به التوفيق السوي بين مصالح أفراد الجماعة، وهو الذي ينظم علاقاتهم تنظيمًا لا إجحاف فيه ولا عدوان، ومن أحب الحق رضي به لنفسه، ولم يطمع بحقوق الآخرين.

ووجه ارتباط الإيمان بأن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، أن الإيمان الكامل الشامل لأسسه وأركانه وآثاره وثمراته، يشتمل على الجانب الاعتقادي، والجانب الخلقي، والجانب السلوكي، وسائر الجوانب التي أمر بها الإسلام من حق وخير وجمال، ومن أركان الأخلاق الاجتماعية أن يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه.

إن المؤمن يحب لنفسه الجنة، فعليه أن يحب لأخيه الجنة أيضًا، والمؤمن يحب لنفسه أن لا يعتدي أحدٌ على حقوقه، فعليه أن يحب لأخيه مثل ذلك، والمؤمن يحب لنفسه الخير والتقدم والكمال، فعليه أن يحب لأخيه مثل ذلك. وهكذا إلى سائر ما يحب المؤمن لنفسه.

أما عقد التآخي بين المؤمنين فقد أعلنه الله بقوله في سورة (الحجرات 49):

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10))

إن عناصر الأخوة في مفهوم الناس لا تعدو أنها لقاءٌ في النسب على أبوين، أو على أحدهما.

فإذا ارتقينا عاليًا فوق الأبوين القريبين، وتسلسلنا مع الآباء والأمهات، وجدنا أن المجموعة البشرية كلها تلتقي على أصل واحد، فبين الناس جميعًا على هذا المعنى المادي أخوة عامة، أعلنا القرآن بقول الله تعالى في سورة (الحجرات 49):

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13))

وأعلنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:

كلكم لآدم وآدم من تراب.

فهذه الأخوة المتعارف عليها عند الناس لم ينكرها الإسلام، ولكنه ارتقى بها عن معنى الأخوة القريبة إلى الأخوة الإنسانية، ثم اعتبر هذا المعنى الجسدي أضعف العناصر التي تشتمل عليها معاني الأخوة الصحيحة، ثم بصر الناس بالعناصر الأهم والأخطر، التي تنعقد بها الأخوة المتينة الصادقة، وهذه العناصر كلها عناصر سامية راقية، أعمق تغلغلًا في الإنسان من حدود بنائه الجسدي وروابطه المادية، وهذه العناصر الراقية العظيمة كلها تلتقي تحت عنوان الأخوة الإيمانية.

ولدى تحليل عناصر الأخوة الإيمانية تنكشف لنا العناصر التالية:

أولًا:
الالتقاء الفكري على عقيدة علمية واحدة.

ثانيًا:
التقاء قلوب المؤمنين على عاطفة دينية واحدة، وأهداف غائية واحدة.

ثالثًا:
التقاء أفراد المسلمين على سلوكٍ فردي واجتماعي متحد أو متقارب جدًّا في خطته العامة، سواء أكان سلوك عبادة، أو سلوك أخلاق، أو سلوك آداب، أو سلوك أحكام تشريعية ونظام حياة.

رابعًا:
التقاء جماعة المسلمين تحت قيادة واحدة ضمن أسس التعاليم الإسلامية.

إن الأخوة الإيمانية القائمة على هذه العناصر أخوةٌ متينة باقية، وعميقة عمق الإيمان في قلوب المؤمنين.

بخلاف الأخوة القائمة على الالتقاء الجسدي البحت، الخالي من عناصر الأخوة المعنوية، فإنها من غير الممكن أن تتكون منها جماعة صحيحة قوية، تصمد لعوامل التمزيق، وعوامل التفكك والخلاف، لا سيما إذا كان بين أفرادها خلاف فكري، أو خلاف اعتقادي، أو خلاف في المصالح والغايات والأهداف. فمن المشاهد المتكرر أن إخوان النسب يتقاتلون متى اختلفت عقائدهم ومصالحهم وأهدافهم في الحياة، وأن إخوان الإيمان والحب في الله يتعاملون فيما بينهم بالأخوة، وإن اختلفت مصالحهم الفردية، على أن مصالحهم الجماعية العامة مصالح واحدة يعود نفعها وخيرها على الجميع.

وتدعيمًا للأخوة الإيمانية العامة أقام الرسول صلى الله عليه وسلم روابط ثنائية وثلاثية أو أكثر بين المهاجرين والأنصار بعد أن هاجر إلى المدينة، حتى بلغت حد التوارث أول الأمر، ثم نسخ حكم التوارث هذا. وفي هذا التآخي التدعيمي الزائد على الأخوة الإيمانية العامة، جعل الرسول صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين. وجعل أبا بكر وخارجة بن زيد أخوين. وجعل حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة أخوين. وجعل عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين. وجعل عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين. وهكذا عقد أخوة خاصة بين أصحابه إضافة إلى الأخوة الإيمانية العامة، وتدعيمًا لروح الرابطة الجماعية، وتعميقًا لها في القلوب.

(ب) الصحبة في الله، والمجالسة في الله:

1- روى أبو داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي.

(قال النووي: إسناده لا بأس به).

2- وروى أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل.

3- وروى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة. ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا منتنًا.

نافخ الكير: هو الحداد. يحذيك: يعطيك، يقال لغة: أحذاه يحذيه إذا أعطاه. ويقال أيضًا: حذاه يحذوه حذوًا، أي أعطاه. والحذية والحذوة والحذيا: العطية.

فالمصاحبة في الله والمجالسة في الله، مما حث عليه الإسلام، لما فيهما من تدعيم للروح الجماعية بين المسلمين، وتقوية للمودات، وشد لأواصر الصلات.

وللمصاحبة والمجالسة شروط حتى تكونا إسلاميتين نافعتين مفيدتين:

الشرط الأول:
أن تكونا في الله وابتغاء مرضاته، لا لمجرد مصالح دنيوية مادية تقصد.

الشرط الثاني:
أن لا تشتمل أي منهما على معصية لله تعالى.

الشرط الثالث:
أن يتناصح الأصحاب والجلساء فيما بينهم، ويتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر.

الشرط الرابع:
أن يتعاون الأصحاب والجلساء فيما بينهم على البر والتقوى، ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول.

الشرط الخامس:
أن لا تجر أي منهما إلى مناصرةٍ وتأييد بالباطل ضد أصحاب الحق، تأثرًا بعصبية المصاحبة أو المجالسة.

وتحذيرًا من جليس السوء وترغيبًا بالجليس الصالح ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلًا لكلٍ منهما.

فمثّل الجليس الصالح بحامل المسك، ومثّل جليس السوء بنافخ الكير، وهو الحداد الذي ينفخ في كيره.

فالجليس الصالح ينفع جليسه في كل حال، إنه كحامل المسك، إذا لم تشتر منه ولم يمنحك منه عطية استمتعت من مجالسته بريح طيبة. وهكذا من يجالس أهل العلم والفضل والصلاح، فإما أن يسألهم ويأخذ منهم علمًا أو نصيحة، وإما أن يبدأوه بتعليم أو نصيحة ولو لم يسألهم، وإما أن يجدهم على عمل صالح فينتفع منهم بالاقتداء وتأثير العدوى الصالحة، وإما أن يجمع كل ذلك، وفي كل ذلك خير عظيم.

أما جليس السوء فإنه يؤذي جليسه على كل حال، فهو كالحداد الذي ينفخ في كيره، ويضرب على محمي حديده، إذا لم يطر شيء من شرار ناره على ثيابك فيحرقها وجدت من حديد وناره وكل ما يحيط به ريحًا منتنة مؤذية. وهكذا من يصاحب أو يجالس أهل السوء والفحش والمعصية، فهو إما أن ينساق معهم إلى مواقع الإثم التي هم فيها، فتمسه نار المعصية، وإما أن يجد ما يؤذيه من قول أو عمل أو قدوة سيئة.

ففي هذا المثل البديع وفاء بغرض النصيحة والإرشاد، وتوجيه غير مباشر يدخل إلى النفوس ويؤثر فيها دون أن تصده عقبة، وفيه تمثيل المعاني الفكرية والنفسية بأشياء مدركة بالحس، ومعلوم أن المدركات الحسية أثبت في النفوس وأرسخ من المعاني المجردة.

يضاف إلى ذلك أن الأمثال البديعة تحتوي على ألوان من الجمال الفني الممتع للنفوس، والإمتاع طريق قريب للتأثير في النفوس، وتقبلها لما جاء مغلفًا فيها.

وفي التوجيه الصريح لمصاحبة الص