موسوعةالأخلاق الإسلامية-قوة الإرادة(المبادرة بفعل الخير قبل وجود الموانع)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-قوة الإرادة(المبادرة بفعل الخير قبل وجود الموانع)
235 0

الوصف

                                                      قوة الإرادة

                                    المبادرة بفعل الخير قبل وجود الموانع
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثالث: قوة الإرادة >>

9- المبادرة بفعل الخير قبل وجود الموانع

ومن ظواهر قوة الإرادة المبادرة بفعل الخير قبل وجود الموانع، وهذا ما أرشد إليه الإسلام.

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًّا، أو غنىً مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائبٍ ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر.

(رواه الترمذي بإسناد حسن).

يهدف هذا الحديث إلى تربية المسلمين على خلق علو الهمة، وخلق قوة الإرادة، وذلك لأن مبادرة الأحداث قبل وقوعها بالأعمال الكفيلة بدرء أخطارها، واغتنام الوقت قبل حلولها، تحتاج إلى حزم حكيم، وجدٍ صادق، وبتٍ في الأمور عند ظهور الوجه الأصلح، وبعد عن التردد والتخاذل، وحذر من داء التواني والكسل، والتسويف في العمل، وهذه كلها ظواهر ترجع في مجموعها إلى خلق قوة الإرادة، وخلق علو الهمة، فتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين لمبادرة الأحداث قبل وقوعها من تربيتهم على هذين الخلقين الكريمين.

ونبه الرسول صلى الله عليه وسلم على أحداث سبعة يجب على المسلم العاقل الحازم قوي الإرادة عالي الهمة أن يبادرها بالأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة النافعة تشمل جميع ما أمر به الإسلام من سلوك أخلاقي، أو عبادة لله عز وجل، أو جهاد في سبيل الله، أو التزام للمنهج الإسلامي الذي رسمه الله للناس، في أي ميدان من ميادين العمل.

أما السبع التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمبادرتها بالعمل، فهي مجموعة أعراض في حياة الإنسان صارفة له عن العمل، أو مقعدة له عنه، أو قاطعة له عنه قطعًا كليًّا، ويأتي في قمة هذه الأعراض وفي غايتها الموت الذي تنتهي به فترة الامتحان، وهذا بالنسبة إلى كل فرد، ثم قيام الساعة التي تنتهي بها الحياة الدنيا كلها، فلا يبقى لأحد من الناس عندئذٍ مجال لأي عمل. وأما الدجال فهو شر فتنة مرتقبة تفتن الناس عن دينهم، فتصرفهم عن فعل كل خير، وتدفع بهم إلى سوء المصير.

وكل أمر من هذه الكوارث السبع يداهم الناس بثقل عظيم، يصرفهم عن العمل صرفًا كليًّا أو جزئيًّا، أو يقيم بينهم وبين العمل سدًا لا يستطيعون اختراقه.

وبأسلوب بارع بديع عرض الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السبع، إذ جاء بها على طريقة الاستفهام، وهذا الأسلوب البياني أرقى وأفعل في النفس من العرض بأسلوب البيان الخبري، المجرد عن الاستفهام، وذلك لأن أسلوب الاستفهام لدى تقرير الحقائق يستدعي مشاركة المخاطبين في التفكير، ومساهمتهم في البحث عن الأعراض والأحداث الكونية الصارفة أو المقعدة أو القاطعة للناس عن العمل.

الأول:

هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا؟

فوصف الرسول صلى الله عليه وسلم الفقر بأنه ينسي، وهو من الأعراض التي قد يتعرض لها الإنسان في حياته، فتهز كيانه، وتفقده صوابه، وتنسيه العمل لآخرته.

إن الفقر الشديد الذي يحوج الإنسان إلى لقمة العيش وضرورات الحياة، يفقده صوابه، ويحصر كل تفكيره في طلب ما يسد به حاجاته، فإذا لزمه الفقر شتت باله، وهز كيانه، وأقلق نفسه، وعندئذ ينسى معظم الواجبات المتعلقة به، وينسى الأعمال الأساسية التي تكون سبب سعادته في الدنيا والآخرة. وهذا الفقر عرض من أعراض الحياة قد يصيب الإنسان فجأة دون ترقب، وقد يداهمه دون أن يحسب له حسابًا، والعاقل هو الذي يغتنم الأيام التي يكون فيها ذا سعة ويسار، فيبذل من ماله في سبيل الله وابتغاء مرضاته، ويقدم بذلك عملًا صالحًا يبادر به ما قد يداهمه من فقر ينسيه، ويغتنم أيام استقراره النفسي بيساره، فيعمل أعمالًا صالحات يبادر بها ما قد يفاجئه من فقر يقلقه، ويشتت باله وينسيه واجباته.

الثاني:

أو غنىً مطغيًا؟

والغنى المطغي من الأعراض التي قد يتعرض لها الإنسان في حياته، ومن الثابت أن نفس الإنسان يمسها الطغيان متى شعرت بالاستغناء، وهذا ما بينه الله بقوله في سورة (العلق 96):

(كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآَهُ اسْتَغْنَى (7))

وهذا الطغيان النفسي الذي يمس الإنسان عند شعوره بالاستغناء طغيان يصرفه صرفًا عنيفًا عن الأعمال الصالحة، والعاقل الحصيف الحازم قوي الإرادة هو الذي يبادر بالأعمال الصالحات هذا الشعور قبل أن يمس نفسه، فيقيم بينه وبين نفسه سدًا من فضائل الأخلاق، فإذا جاءه الغنى وقد بادر بالأعمال الصالحات لم يطغه الغنى.

الثالث:

أو مرضًا مفسدًا؟

والمرض من الأعراض التي قد يتعرض لها الإنسان في حياته، فتفسد نفسه، ومزاجه، وتقعده عن العمل.

فإذا لم يغتنم الإنسان زمن صحته، ولم يبادر بالأعمال الصالحة ما قد ينزل به من سقم، ولم يعد نفسه إعدادًا حسنًا، يتلقى معه الآلام بصبر ورضىً عن الله، جاءه عرض المرض فأقعده عن العمل، وأفسده، إذ يضجره، ويسيء أخلاقه، ويجعل تصرفاته مع نفسه ومع الناس تصرفات شاذة، وقد يتطاول على ربه بما يجعله -والعياذ بالله- من الكافرين.

أما إذا أعد نفسه بالأعمال الصالحة إعدادًا حسنًا، فإنه إذا جاءه المرض تلقاه بصبر ورضى عن الله، وكان له طهورًا، وحسب له مدة مرضه مثل الأعمال الصالحة التي كان يفعلها قبله.

كما أن المرض يمنع الإنسان عن كثير من الأعمال الصالحة إذ يقعده عنها، والعاقل هو الذي يغتنم أحوال صحته، قبل أن تأتيه أحوال المرض، فيستزيد من الأعمال الصالحة ما أمكنته الاستزادة.

الرابع:

أو هرمًا مفندًا؟

أي موقعًا في الخرف، والفند: الخرف وتناقص العقل من الهرم أو المرض، وقد أفند الرجل إذا خرف، ويقال: شيخٌ مفند، أي واصل إلى مرحلة الخرف. والفند: الخطأ في الرأي والقول. وأفنده: أي خطأ رأيه.

والهرم المفند عجزٌ مقعدٌ عن العمل ومفسد للرأي، والعاقل هو الذي يغتنم زمن شبابه وقوته قبل أن يأتيه طور الهرم الذي يقعده عن العمل، ويكون هذا الاغتنام بأن يبادر بالعمل الصالح.

الخامس:

أو موتًا مجهزًا؟

والموت المجهز هو الموت السريع الذي يفاجئ الإنسان دون مقدمات، وبالموت ينقطع الإنسان عن كل عمل.

والعاقل الحازم الحصيف قوي الإرادة عالي الهمة، هو الذي يغتنم حياته بالأعمال الصالحة، بل أن يأتيه الموت المفاجئ دون إنذارٍ سابق.

وكل إنسان عرضة لأن ينزل به الموت المفاجئ.

السادس:

أو الدجال فشر غائبٍ ينتظر؟

نعم إن الدجال شر فتنة منتظرة ستتعرض لها الإنسانية كلها، ومن لم يعد نفسه بالأعمال الصالحات قبل مجيء هذه الفتنة العظيمة، لم يستطع الثبات بإيمانه أمام تيارها الجارف، وقبل الدجال دجالة كثيرون.

السابع:

أو الساعة فالساعة أدهى وأمر؟

والساعة إذا قامت لم يبق معها حي على وجه الأرض، وبها تنقطع كل الأعمال.

والمؤمن العاقل الحصيف قوي الإرادة عالي الهمة يبادر بالأعمال الصالحة هذا الحدث قبل أن يقع؛ لأنه يعلم أن وقوعه حتمي لا محالة، إلا أن الله تعالى أخفى زمنه، واحتمال وقوعه وارد في كل حين، لا سيما وكثير من أشراط الساعة قد ظهر، والساعة لا تأتي بتقدير الله إلا بغتة.

وهكذا يوجهنا الرسول صلى الله عليه وسلم بنصائحه ووصاياه، حتى نكون أصحاب إرادات قوية حازمة عاقلة، وأصحاب همم عالية عاملة، وأهل رأي حصيف.