موسوعةالأخلاق الإسلامية-قوة الإرادة(الجد والحزم والنظام)
الوصف
قوة الإرادة
الجد والحزم والنظام
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثالث: قوة الإرادة >>
8- الجد والحزم والنظام
ومن ظواهر خلق قوة الإرادة الجد في الأمور، والأخذ فيها بالحزم، والنظام في الأعمال والبعد عن كل فوضى.
أما ضعيف الإرادة فإنه يتخاذل أمام ميل نفسه إلى الكسل والتباطؤ في العمل، فلا يكون جادًا مجتهدًا في أموره، ولا يكون حازمًا في تنفيذ أعماله، وهو يميل غالبًا إلى الهزل لستر حالة النقص التي يعاني منها، ولتغطية ضعف إرادته أمام هوى نفسه إلى الكسل، وطبيعي أن لا يحب النظام في أعماله؛ لأن النظام يتطلب جدًّا وحزمًا، فالجاد الحازم العاقل لا بد أن يرتب أعماله وواجباته وفق نظام عملٍ سليم، يمنع التزاحم والتعارض والتصادم، ويملأ فراغ الوقت بتوزيع متناسق للعمل، وتقسيم عادل للوقت. بخلاف الذي لا جد ولا حزم عنده بسبب ضعف إرادته أمام ميل نفسه إلى الكسل، فمن أصعب الصعاب لديه أن يرتب أعماله وواجباته، وفق نظام عمل سليم يتقيد بتنفيذه؛ لأن هذا سيفوت على هوى نفسه فرصة الإخلاد إلى الراحة، متى شاء له هذا الهوى، ومن شأن هذا الهوى الجانح الضار أن يحرضه على التكاسل وترك العمل، والإخلاد إلى التعطل التام، متى شعر بأدنى تعب في جسمه أو ملل في نفسه، أو عدم انسجام بين هواه ونوع العمل الذي يقوم به. إن الكسل يجر إلى التعطل، والتعطل يجلب الخبل، والسأم، والوساوس، والنوم الطويل القاتل للقوى والمتلف للعمر من غير فائدة، والتعطل يجر إلى الحاجة والضرورة، ثم إلى الجريمة، أو يجر إلى أنواع شتى من الفساد الشخصي والاجتماعي. فكل هذه النقائص والقبائح قد تتولد عن هذا الأساس الذي يمثل انحرافًا جذريًّا في بناء الإنسان الخلقي. قد يستصغر الإنسان بعض النقائص الجذرية فيهمل إصلاحها، فيتولد عنها أمور خطيرة جدًّا. إن الصغائر في الجذور كبائر في الآثار، فإبرة صغيرة في القلب أعظم خطرًا وضررًا من سيف بتار في القدم، ورب شرارة أخطر من جيوش جرارة.
وقد حث الإسلام على الأخذ بالجد والحزم، ووضع الخطط اللازمة لتدريب المسلمين على النظام.
وحينما يمارس الإنسان الجد والحزم والنظام في أعماله، ويتدرب على هذه الفضائل السلوكية بالتكلف، يكتسب العادة عليها، ثم تكون جزءًا من أخلاقه، وذلك له أثر أيضًا في تقوية إرادته، التي تكون قوةً مضافة إلى قوة العادة في تأثيرها، فتنمو لديه فضائل الجد والحزم والنظام في الأعمال.
لقد أمر الله المسلمين بأن يقتدوا بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانت حياة الرسول مع أصحابه حياة جد وحزم ونظام، سواءٌ ما يتعلق منها بأمور الدين وما يتعلق منها بأمور الدنيا، وبالتربية النبوية تحول شعب فوضوي يعوزه الجد في الأمور، ولا يربطه نظام، إلى أمة جادة، ذات حزم، وانضباط مع الواجب، وانتظام كامل في العمل الفردي والجماعي.
ومن التوجيه النبوي إلى المثابرة على العمل بدأب وانتظام، ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.
وفي حث الإسلام على العمل النافع المفيد دعوة كافية إلى الأخذ بالجد، ومجانبة الهزل واللهو واللعب.
ولئلا يترك الله لرسوله فراغًا في وقته خاليًا من عمل نافع، أمره بأن يقوم بعمل جديد متعب يرضي الله فيه كلما فرغ من عمل سابق أرضى الله فيه، فقال له في سورة (الشرح 94):
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8))
أي: فإذا فرغت من عمل سابق فابدأ بعمل جديد تنصب فيه، أي: تتعب فيه، ولتكن في كل عملك راغبًا بتحقيق مرضاة ربك.
أليس هذا غايةً في الأمر بالعمل الجاد النافع، وملء كل فراغ من الوقت به، وفي الصرف عن كل لهو وهزل وعبث، وكل عمل ليس فيه تحقيق لمرضاة الله تعالى؟
وما أمر الله رسوله به يشمل في توجيهه عامة المسلمين.
وفي تنفير الإسلام من اللهو والهزل والعبث، وتوجيه المسلم لأن يكون عاملًا جادًا في عمل ما ينفعه مما فيه مرضاة لله تعالى، إلا في حدود قليلة يقصد منها الترويح عن النفس، والاستجمام للقيام بعمل آخر نافع، نلاحظ نصوصًا عديدة، منها ما يلي:
(أ) يقول الله تعالى في سورة (المنافقون 63):
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9))
ففي هذه الآية توجيه إلى أسمى ما ينفع الإنسان في حياته الدنيا، وهو ذكر الله الذي يدفعه باستمرار إلى كل عمل من أعمال الخير التي ترضي الله. فمن ألهته أمواله، أو ألهاه أولاده، عن هذا العمل المجيد، خسر رأس ماله في هذه الحياة، ورأس مال الإنسان في حياته عمره المحدود، وطاقات العمل التي وهبه الله إياها، ومن خسر رأس ماله كان هو الخاسر الأكبر. ويظن الجاهلون أنهم إذا ربحوا كثرة المال أو الولد فقد فازوا، ويغفلون عن خسارتهم ذاتهم، التي لا يعوضها مال ولا ولد.
(ب) وكان قوم عاد يبنون في مرتفعات من الأرض مباني لا غرض لهم منها إلا أن تكون دالة على عظمتهم، ولا غاية لهم منها إلا التفاخر، فهي لا تؤوي ساكنًا ولا تدفع بأسًا، فرأى الله هذا العمل منهم عبثًا، والعبث ليس من شأن العلماء العقلاء، فبلغهم ذلك رسولهم هود عليه السلام، قال الله تعالى في حكاية قول هود لهم في سورة (الشعراء 26):
(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128))
الريع: هو المرتفع من الأرض، والطريق. آية: أي علامة تدل على قوتكم، فتفاخرون بها.
أما توجيه الإسلام لتنظيم الأعمال وتوزيعها بعدل على الأوقات، فموجود في كل العبادات الإسلامية المفروضة، وفي معظم العبادات غير المفروضة، فهي مشمولة بنظام عمل محدد، لا مجال فيه للفوضى. الصلاة المفروضة تؤدى بنظام تام في أوقاتها، وفي حركاتها، وفي أقوالها، سواء أديت بصفة فردية أو بصفة جماعية وقد ثبت في الصحيح أن أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها. والصوم يؤدى بنظام تام، إذا طلع الفجر أمسك الصائم عن كل المفطرات، وإذا غربت الشمس أفطر الصائم فلم يعد إمساكه صومًا. والحج يؤدى بنظام تام، فلا يجوز الوقوف بعرفة إلا في يوم محدد من السنة، ولا يجوز الإخلال بالفروض والواجبات، ولا التفريط بالمحرمات، ولا الخروج عن حدود الشعائر. والزكاة تؤدى بنظام لا مجال فيه للفوضى.
وعقود المعاملات في الإسلام لها أنظمة يجب التقيد بها، ولا يجوز الخروج عليها.
ويوم المسلم الملتزم بإسلامه موزع وفق نظام يدخل في فقراته العبادات بأوقاتها المحددة، والباقي ينظمه المسلم حسب حاجاته من العمل والراحة.