موسوعةالأخلاق الإسلامية-قوة الإرادة(البت في الأمور بحزم وعدم التردد بعد العزم)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-قوة الإرادة(البت في الأمور بحزم وعدم التردد بعد العزم)
366 0

الوصف

                                                     قوة الإرادة

                                    البت في الأمور بحزم وعدم التردد بعد العزم
       الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثالث: قوة الإرادة >>

7- البت في الأمور بحزم وعدم التردد بعد العزم

ومن ظواهر قوة الإرادة البت في الأمور بحزم عند ظهور الوجه الأصلح فيها، وعدم الاستسلام للتردد والحيرة النفسية التي تنتاب ضعفاء الإرادة، وتنتاب الذين يتخوفون من النتائج ومسؤولياتها المادية أو الأدبية.

إن ضعيف الإرادة يقتل عمره في متاهات الحيرة والتردد، فهو لا يصلح لإدارة نفسه والقيام بأعمالها اللازمة النافعة، حتى تحوجه الضرورة إلى ذلك من أمور طبيعية أو أحداث مفاجئة، فهو يترك الأحداث تبادره، ولا يبادرها هو بتراتيبه وخططه واستعداداته وأعماله النافعة.

أما العاقل قوي الإرادة فعلى العكس من ذلك، إنه يحسن استخدام طاقاته، واستغلال وقته، وتصيد الفرص السانحة، فيبت القرارات الصالحة، وينفذ الأعمال النافعة، ومتى ظهر لديه الوجه الأصلح عزم عليه ونفذه متوكلًا على الله، ومعتمدًا على تسديده وتوفيقه، إنه يدير نفسه بحكمة وحزم، ويصلح لأن يدير الأعمال الجماعية بحكمة وحزم، متى توافرت لديه الشروط الواجبة لنوع الإدارة الخاصة التي يتولاها.

وقد أرشد الإسلام إلى هذه الظاهرة الخلقية من ظواهر قوة الإرادة.

ففي النص القرآني التربوي الأخلاقي العظيم، الذي علم الله فيه رسوله محمدًا صلوات الله عليه، أن يكون لينًا غير فظ الطبع ولا غليظ القول، وأن يتسم بخلق العفو عن أصحابه وأتباعه، وأن يستغفر لهم، وأن يشاورهم في الأمر، نجد في آخره أن الله يعلم رسوله إذا عزم على أمر أن ينفذه متوكلًا على الله، غير متردد ولا متحير ولا متراجع عنه، وفي هذا توجيه قويّ إلى بتّ الأمور بحزم متى ظهر الوجه الأصلح، بل فيه أمرٌ تكليفي بذلك، وهذا البت إنما يكون بعد اتخاذ ما يلزم من تدبر للأمر، ومشاورة فيه لأهل الرأي، قال الله لرسوله في سورة (آل عمران 3):

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159))

فقوله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي: فنفّذ ما عزمت عليه متوكلًا بقلبك على الله، ليمدك بعونه ويدفع عنك الأعراض والموانع، ويحقق لك النتائج التي ترجوها، وفي قوله تعالى بعد ذلك: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) إشارة إلى أن الله عز وجل يحب الذين ينفذون أعمالهم إذا عزموا عليها بشرط أن يتوكلوا في قلوبهم عليه، ليدفع عنهم الأعراض والموانع، وليحقق لهم النتائج التي يرجونها، وليمدهم بعونه، مع قيامهم هم بالأسباب التي ربط الله بها النتائج في نظام كونه.

فالبت في الأمور بحزم عند ظهور الوجه الأصلح من الفضائل الخلقية التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها، متأسيًا بالرسول صلوات الله عليه، ومتبعًا إرشاد الإسلام في ذلك.

ومن كان في إرادته ضعف فعليه أن يدرب نفسه على البت في الأمور بحزم، وعدم التراجع عما يبته ويقرره، وأن يدرب نفسه على نتائج قراراته، وما يبته من أمور، وما ينجزه من أعمال.

فبالتدريب المتتابع يتخلص الإنسان من التردد الناشئ عن ضعف الإرادة وعدم الثقة بالنفس، ويساعده في عمليات التدريب، أن يضع نصب عينيه القدوات الصالحة من أهل العزم وأصحاب الإرادات القوية، الذين يثقون بما منحهم الله من هبات، ويؤمنون بأن الله معهم يسددهم وينور بصائرهم، وينفذون بحزم ما يعزمون على تنفيذه، وهم متوكلون على ربهم، واثقون من معونته وتأييده.

وفي مقدمة القدوات الصالحة الرسول صلوات الله عليه، فقد كان أبعد الناس عن التردد في أموره. كان إذا عزم على أمر لم يتراجع عنه، ولم يتردد في تنفيذه مهما وقفت العوائق في طريقه، ولكنه كان يتأنى في العزم على الأمور وإصدار القرارات الجازمة فيها، حتى يتدبرها تدبرًا كافيًا، وحتى يستشير أهل الرأي والحجى من أصحابه، وحتى يتبين فيها الآراء اتفقت أو اختلفت. ومن شواهد ذلك ما كان منه صلوات الله عليه في غزوة أحد، إنه لما بلغه مقدم جيش المشركين من قريش إلى المدينة، ونزولهم خارجها لقتال المسلمين، جمع الرسول صلوات الله عليه أصحابه، فاستشارهم، وخيرهم بين الخروج لملاقاتهم وقتالهم، والبقاء في المدينة فإن دخلوا عليهم فيها قاتلوهم في طرقاتها ورموهم من فوق البيوت، فكان رأي الطائفة من شيوخ المسلمين عدم الخروج من المدينة إلى العدو، وكان رأي الطائفة من الشباب والذين لم يكن لهم شرف القتال في غزوة بدر، أن يخرج الرسول والمسلمون لقتال عدوهم خارج المدينة، وقالوا: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا.

ولم يزل أصحاب هذا الرأي يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج حتى وافقهم على ما أرادوا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته فلبس درعه، وأخذ سلاحه، ولما خرج عليهم بعدة الحرب ظن الذين ألحوا عليه بالخروج أنهم قد استكرهوه على ما لا يريد، فندموا على ما كان منهم، فقالوا له: لعلنا استكرهناك يا رسول الله، ولم يكن لنا ذلك، فإن شئت فاقعد.

هنا برزت قوة إرادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وظهر حزمه في الأمر بعد عزمه على الخروج إلى العدو، وقتاله خارج المدينة، فقالوا صلوات الله عليه:

ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل.

اللأمة: هي الدرع وعدة الحرب.

وكذلك كان دأب الرسول صلوات الله عليه، فلم يعرف عنه التردد ولا التقلب، ولذلك كان أعظم إداري قائد عرفه التاريخ، فهو المثل الكامل للإنسان الكامل.

وقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه هذا الخلق، ودربهم على المضي في الأمر وعدم التردد فيه بعد العزم عليه.

روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر:

لأعطين هذه الراية رجلًا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه.

قال عمر رضي الله عنه: ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ، فتساورت لها رجاء أن أدعى لها.

قال أبو هريرة: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأعطاه إياها وقال:

امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك.

فسار علي شيئًا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال:

قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.

ففي قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:

امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك

تربية خلقية على المضي في الأمر وعدم التردد، متى تم العزم والتصميم على القيام به. وقد نهاه الرسول عن أن يلتفت إلى الوراء لأن الالتفات مظهر من مظاهر التردد، ومن مظاهر ضعف العزيمة عن القيام بما تم العزم عليه، وهذا ليس من شأن أصحاب الإرادة القوية.

فالرسول صلى الله عليه وسلم بهذا التوجيه يغرس في نفوس أصحابه خلق قوة الإرادة، حتى لا يقعدهم التباطؤ والحيرة والتردد والالتفات إلى الوراء عن القيام بجلائل الأعمال.

وتنفيذًا لهذا التوجيه النبوي وجدنا عليًّا رضي الله عنه لما أراد أن يأخذ التعليمات الأساسية التي تتعلق بالمهمة التي حمل الراية للقيام بها، نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته وهو متوجه لمهمته دون     أن يلتفت إلى الرسول، وفي هذا تدريب عملي على قطع كل تردد قد يعرض للنفس بعد الجزم على القيام بالعمل.

إنها لا تصلح قيادة مع تردد، ولا تصلح قيادة مع تباطؤ وتسويف، ولا تتم الأعمال العظيمة من الأفراد والجماعات إذا كانت مقترنة بالتردد والحيرة وضعف الأمل بتحقق النتيجة المقصودة.

ولما كانت المهمة التي حملها الرسول عليًّا هي مهمة فتح خيبر، جعل له فتح خيبر غاية مسيرته التي يقوم بها، لا سيما وقد قدم له البشارة بأن القضاء والقدر ظهيره في هذه المسيرة، إذ قال قبل أن يعطيه الراية:

لأعطين هذه الراية رجلًا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه

وكان هذا من الأخبار التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها، وتحققت كما أخبر، وأصحاب الرسول على إيمان كامل بأن ما يخبر بوقوعه في المستقبل لا بد أن يقع.

وفي هذا الحديث أن الأحكام الإنسانية يراعى فيها الظاهر، أما أحكام الله فتراعى فيها المقاصد والنيات، وهو ما دل عليه قول الرسول:

قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله.

أي إذا كانوا قد شهدوا شهادة الإسلام وكانوا في حقيقة قلوبهم منافقين فإن حسابهم في ذلك على الله تعالى، وأما أنت فتعاملهم بحسب ما يظهر لك من أحوالهم، ولا تعاملهم بحسب ظنك بحقيقة نياتهم ومقاصدهم، ما      لم يظهر من ذلك شيءٌ ماديٌ تدينهم به.