موسوعةالأخلاق الإسلامية-قوة الإرادة(كبح جماح الأهواء والشهوات)
الوصف
قوة الإرادة
كبح جماح الأهواء والشهوات
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثالث: قوة الإرادة >>
6- كبح جماح الأهواء والشهوات وعدم التأثر بضغط الجماهير الضالة والقادة المضلين ووساوس الشياطين
ومن أبرز ظواهر قوة الإرادة قدرة الإنسان على كبح جماح أهواء نفسه التي بين جنبيه، وقدرته على ضبط شهواته وحجزها عن الجنوح، ورفضه وساوس شياطين الإنس والجن، مهما بلغت إغراءاتها وزخارفها، وعدم تأثره بضغط الجماهير الضالة والقادة المضلين.
ومن أبرز ظواهر ضعف الإرادة تخاذل الإنسان واستخذاؤه أمام أهواء نفسه وشهواتها واتباعه خطوات الشيطان، وتأثره بوساوس شياطين الإنس والجن، وتأثره بضغط الجماهير الضالة، والقادة المضلين.
في هذا المجال الخطير تظهر الشخصية الإنسانية، ويظهر ما لديها من قوة أو ضعف في الإرادة.
ولذلك كان من خطة الإسلام التربوية العمل على تقوية إرادة الإنسان، حتى يتغلب على أهوائه التي لا خير فيها، ويكبح جماح شهواته الجانحة عن سبيل الخير والهدى، ويرفض بإصرار وحزم كل وساوس الشياطين وتسويلاتهم، وينتصر بعزمه على كلّ إغراءاتهم، وحتى تكون إرادته هي صاحبة السلطة التنفيذية الفعالة في كيانه، بعد أن تهتدي بهدي السلطة التشريعية فيه، وبذلك يرتقي الإنسان إلى مرتبة الكرامة التي كرمه الله بها (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) وإلا ارتد إلى أسفل سافلين (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)
وهكذا تهدف خطة الإسلام التربوية إلى رفع الإنسان إلى عليين، في كل جانب من جوانبه الفكرية والنفسية والروحية والخلقية. أما الشياطين فيهدفون إلى جرّ هذا الإنسان إلى أسفل سافلين، في كل جانب من جوانبه أيضًا.
وإن أعظم انتصار تنتصره الإرادة الإنسانية، هو انتصارها على أهواء النفس وشهواتها ووساوس الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم.
والنصوص التي تشتمل على الخطة التربوية الإسلامية لرفع الإنسان إلى مرتبة الكرامة التي كرمه الله بها في أصل التكوين، وإلى الصعود به إلى عليين، كثيرة، وفيما يلي تدبر لطائفة منها:
* أولًا:
ففي تربية الإرادة حتى تتغلب على أهواء النفس يقول الله تعالى في سورة (النازعات 79):
(فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41))
هذا النص يبين لنا أن للإنسان قوة قادرة على أن تحكم فتأمر وتنهى، وقوة أخرى اندفاعية ذات أهواء تتجه نحوها بعوامل نفسية، فإذا أهملت هذه القوى الرعناء، وتركت تندفع وفق الأهواء، طغت وسيطرت على كيان الإنسان، مؤثرةً الحياة الدنيا على الآخرة، وعندئذٍ يهوي الإنسان إلى الحضيض، وعندئذٍ لا بد أن يكون مصيره إلى جهنم، فهي جزاؤه، وهي مأواه.
أما إذا تمكن بقوة إرادته من نفسه وما فيها من قوى رعناء، ونهى النفس عن الهوى، فإنه يرقى بنفسه، ويذهب بها صاعدًا إلى العلاء، حتى يصل إلى منزلة الكرامة الإنسانية التي كرم الله بها بني آدم، وعندئذٍ يستحق جنة الخلد، فهي جزاؤه، وهي مأواه.
فقوة الإرادة المقترنة بالعقل والحكمة، والمهتدية بهدي الإسلام، وسيلة موصلة إلى جنة الخلد، ومقام التكريم العظيم لهذا الإنسان.
وقوله تعالى: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) يشعر بأن الأصل في الهوى أن يكون قوة في النفس تجنح بها عن طريق الهدى إذا ترك وشأنه من غير ضبط وتوجيه، وكبح ومد، ومسايرة وردّ.
والواقع يثبت أن مثل الهوى كمثل الحصان الجموح، إذا سار على طريق الهدى مددنا له العنان، وإذا مال إلى جانب الانحراف رددناه وشددنا عليه اللجام، فهو يحتاج إلى قائد يقوده حتى لا يجنح، وإشارة إلى هذه الحقيقة جاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:
لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به
فجعل الرسول صلوات الله عليه الهوى قابلًا لأن يطوع، فيكون تبعًا لما جاء في الإسلام من حق وهداية.
ولذلك جاء في القرآن الهوى المذموم مقيدًا بأن يكون بغير هدى من الله. قال الله تعالى في سورة (القصص 28):
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50))
فهذه الآية تدل على أنه ليس كل من اتبع هواه ضالًا، ولكن الضال الذي ليس فوقه أضل منه هو من اتبع هواه بغير هدى من الله. أما من كان هواه موافقًا لما أنزل الله من هدى، وتبعًا لما جاء به رسول الله من علم، فذلك لا ضير عليه من هواه، بل هواه يساعده على فعل الخير، ويدفعه إليه. إن من أهل الخير من يكون هواه في فعل الخير، ومن أهل الجود من يكون هواه في أن يجود، ومن أهل العبادة من يكون هواه في أن يعبد ربه، ومن أهل العلم من يكون هواه طلب العلم والاستزادة من المعرفة. فهذه الأهواء النفسية الكريمة مصاحبة لهدى من الله، ولذلك لا نعتبرها أهواءً مذمومة، ما لم تتجاوز الحدود النافعة، فتمسي منطلقة على غير هدى من الله، وهي حينئذٍ تجنح أو تجمح إلى مواطن الفساد والإفساد، وتكون أهواءً مذمومة قبيحة.
ولكن قليل من الناس من تكون أهواؤهم سليمة من الجموح والجنوح إلى مواطن الفساد والإفساد، ومن قلتهم لا يكادون يوجدون، ولئن كانت بعض أهوائهم على هدى من الله فأكثر أهوائهم جانحة عن سبيل الهداية.
ولما كان إرضاء الهوى منزلقًا خطيرًا، نهى الله داود عليه السلام عن اتباع الهوى في حكمه بين الناس، خشية أن يضله الهوى عن سبيل الله، قال الله تعالى في سورة (ص 38):
(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26))
فالأسلم للإنسان أن يضع الهوى جانبًا دون أن يلاحظ إرضاءه أو اتباعه، وعليه أن يتبع الحق والهدى، سواء وافق هواه أو خالفه. فإن وافق الحق والهدى هواه كان هواه مساعدًا له ومؤازرًا ومنشطًا، وإن خالف الحق والهدى هواه تدخلت الإرادة الحازمة بقوتها وسلطانها فنفذت ما يقتضيه الحق والهدى، منتصرة على الأهواء وإن تمردت.
ولذلك أيضًا حذر القرآن الكريم من اتباع الهوى، ونبه على أن من عوامل ضلال الضالين وظلم الظالمين اتباعهم أهواءهم أو أهواء قادتهم وكبرائهم، فمن ذلك قول الله تعالى في سورة (الروم 30):
(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ..... (29))
فكونهم اتبعوا أهواءهم على عمى وجهالة من غير تبصر بالعواقب، هو الذي جعلهم ينزلقون إلى مواطن الظلم والكفر بالله، ولو أنهم كانوا على حذر من أهوائهم وبصر بعواقب أمورهم لشدوا لجام أهوائهم، واستقاموا على سبيل الهدى.
ومن ذلك قول الله تعالى لرسوله في سورة (القصص 28):
(فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50))
فبين الله في هذا النص أن سبب عدم استجابة الكافرين للرسول صلوات الله عليه يتلخص بأنهم يتبعون أهواءهم على غير هدى من الله.
ونظيره قول الله تعالى في سورة (القمر 54):
(وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ (3))
فمشركو العرب إذ كذبوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، رغم الآيات البينات التي كانت براهين صدق رسالته –ومنها آية انشقاق القمر- قد كان سبب تكذيبهم أنهم اتبعوا أهواءهم.
والذين يتبعون أهواءهم على درجات:
(أ) فمنهم من لم تنطمس بصيرته، فهو يعلم الحق حقًا والباطل باطلًا، ولكنه ينحرف تحت تأثير أهوائه الجانحة عن سبيل الهدى، بنسب تختلف باختلاف تسلط أهوائه عليه.
(ب) ومنهم من انطمست بصيرته بشكل كلي أو جزئي، وهذا الفريق قد وصل إلى مستوى الطبع على قلبه، إذ أعماه هواه، فزين له سوء عمله، وفي هذا الفريق يقول الله تعالى في سورة (محمد 47):
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14))
أي: لا يستوي الفريقان: فريق هو على بينة من ربه وفريق انطمست بصيرته باتباعه أهواءه، حتى زين له سوء عمله، فهو غير مستعد نفسيًّا لرؤية الحق، ومعرفة جماله وكماله.
ويقول الله لرسوله في شأن المنافقين في سورة (محمد 47):
(وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16))
فهذا فريق من الناس منافق، مطبوع على قلبه باتباعه هواه، فإذا كان في مجلس من مجالس العلم الرباني، أو في مجلس موعظة حسنة، لم يعِ شيئًا، ولم يدخل إلى قلبه من الموعظة ولا من العلم شيء، لقد أصمه الهوى وأعماه، فهو منطمس البصيرة لا يفقه شيئًا من الحق، والهدى.
ومتى انطمست بصيرة الإنسان باتباعه أهواءه كان من الذين قال الله فيهم في سورة (البقرة 2):
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171))
ومتى وصل الإنسان إلى هذا المستوى من سلطان الهوى عليه فقد اتخذ إلهه هواه، فهو لا يسمع ولا يرى ولا يعقل شيئًا مما يخالف ما يمليه عليه الهوى، وطبيعي بعد ذلك أن يكون أبكم عن مقالة الحق.
ومتى اتخذ الإنسان إلهه هواه كان هواه هو الآمر الناهي له، وهو الموجه لسلوكه، قال الله تعالى في سورة (الفرقان 25):
(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)