موسوعةالأخلاق الإسلامية-قوة الإرادة(قوة الإرادة في مفاهيم النصوص الإسلامية)
الوصف
قوة الإرادة
قوة الإرادة في مفاهيم النصوص الإسلامية
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثالث: قوة الإرادة >>
5- قوة الإرادة في مفاهيم النصوص الإسلامية
ما نعنيه من قوة الإرادة لم يأت التعبير عنه بهذا اللفظ في النصوص القرآنية.
ولكن جاء في القرآن ألفاظ ثلاثة ومشتقاتها، تشتمل في مجموع دلالاتها بحسب مواقعها من النصوص على ما نعنيه من (قوة الإرادة) وهذه الألفاظ هي: (الإرادة – العقل – العزم).
وهذه الألفاظ الثلاثة تواردت في القرآن للدلالة على مستويات ثلاثة للإرادة:
(أ) مستوى أدنى، وقد استعمل للدلالة عليه مطلق لفظ الإرادة ومشتقاتها.
(ب) مستوى متوسط، وقد استعمل للدلالة عليه مشتقات لفظ العقل.
(ج) مستوى أعلى، وقد استعمل للدلالة عليه لفظ العزم ومشتقاته.
* أما المستوى الأدنى الذي استعمل للدلالة عليه مطلق لفظ الإرادة ومشتقاتها، فمن شواهده قول الله تعالى في سورة (الإسراء 17):
(مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19))
فالإرادة في هذا النص مستعملة للدلالة على المستوى الأدنى، وهو مطلق الاتجاه المرجح، ولذلك لم تكن كافية لنيل مجد الآخرة حتى اقترن بها السعي المطلوب (وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا)
أما إرادة العاجلة فقد اقترن بها هوى النفس إليها الموجود في فطر الناس، وتأكدت بالتكرار والتجدد الذي دل عليه الفعل المضارع (يريد) وهذا كافٍ للانصراف عن الآخرة، والسعي لزينة الحياة الدنيا ومتعها.
ومن شواهده قول الله تعالى في شأن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك في سورة (التوبة 9):
(وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46))
أي: فلو أرادوا الخروج مع الرسول إلى غزوة تبوك إرادةً ما ولو كانت ضعيفة، لأعدوا له عدةً ما، ولو كانت عدة ضعيفة، هذا المعنى مأخوذ من التنكير في (عدة) من قوله تعالى: (لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) لتدل على أنهم قد وجد عندهم أدنى مستوى من إرادة صادقة، ولكن هذا المستوى الأدنى غير موجود لديهم.
* وأما المستوى المتوسط الذي استعمل للدلالة عليه مشتقات لفظ العقل، فهو مستوىً من الإرادة الجازمة الحازمة الكافية لعقل الإنسان وحجزه عن الاندفاع وراء أهوائه وشهواته، والانزلاق إلى مواطن هلكته العاجلة أو الآجلة.
وقد تكرر في القرآن الكريم استعمال مشتقات لفظ العقل للدلالة على هذا المستوى، كما سبق بيانه في الباب الأول من الكتاب.
فالمراد من العقل في هذه الاستعمالات القرآنية الطاقة الإرادية الجازمة الحازمة، المستندة إلى معرفة الأمور، القادرة على عقل النفس عن مزالق أهوائها وشهواتها.
فالعقل في هذه الاستعمالات غير مطلق الذكاء، إذ الذكاء طاقة فكرية يستطاع بها معرفة الأمور على حقيقتها، سواء اقترن به عقل النفس عن مزالق أهوائها وشهواتها أو لم يقترن. وكم من ذكي حاد الذكاء ولكن لا عقل له، فهو يعرف الشر حق المعرفة، ولكنه لا يستطيع عقل نفسه عنه؛ لأن أهواءه وشهواته مندفعة إليه، ويعرف الخير حق المعرفة، ولكنه لا يستطيع عقل نفسه وسوقها للقيام به؛ لأن أهواءه وشهواته تغلبه فتصرفه عن فعله.
وحينما نقرأ في القرآن مثل قول الله تعالى:( لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )- (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) – (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) - (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) – فالمراد منه غالبًا المعرفة المقترنة بإرادة جازمة حازمة كافية لعقل الإنسان عن اتباع أهوائه وشهواته التي لا خير له من اتباعها.
ولذلك خاطب الله علماء بني إسرائيل بقوله في سورة (البقرة 2):
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (44)) ؟!
لقد خاطبهم الله بقوله: (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) ؟ مع أنهم علماء، لا ينقصهم ذكاء يعرفون به حقائق الأمور، ولكنهم لا عقل لهم يعقلهم ويحبس نفوسهم ويردها عن اتباع هواها.
والعاقل في اللغة: هو الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها.
* وأما المستوى الأعلى الذي استعمل للدلالة عليه لفظ العزم ومشتقاته، فهو مستوى رفيع ممتاز من الإرادة الفعالة الجازمة الحازمة، التي تواجه العقبات الكؤود بالثبات والصمود، وهذا المستوى من شأنه أن ينهض بالإنسان إلى معالي الأمور، ويوصله إلى مراتب الصابرين المحسنين المجاهدين، وأن يجعله في تنفيذ ما يريد من أهل العزم.
ولذلك جعل الله الصبر مع التقوى، وجعل الصبر مع المغفرة لمن أساء، من عزم الأمور، أي: من الأمور التي تتطلب عزمًا، أي: إرادة جادة قوية، قادرة على متابعة الأمور الشديدة الصعبة على النفوس بالتنفيذ.
والعزم على اللغة الجد، وعزم الرجل على الأمر يعزم عزمًا أراد فعله، وعقد عليه قلبه.
قال الله تعالى في سورة (آل عمران 3):
(وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186))
وقال تعالى في سورة (الشورى 42):
(وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (43))
وأوصى لقمان الحكيم ابنه بأن يقيم الصلاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويصبر على ما أصابه، وأبان له أن ذلك من عزم الأمور، قال الله تعالى في سورة (لقمان 31) حكاية لوصاياه:
(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (17))
ولما كانت إرادات الرسول صلوات الله عليه فيما يتعلق بشؤون المسلمين العامة من مستوى العزم قال الله له: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) نجد ذلك في قوله تعالى لرسوله في سورة (آل عمران 3):
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159))
أي: فإذا وصلت إرادتك إلى مستوى العزم على الأمر، فنفذه متوكلًا على الله.
وأولو العزم من الرسل هم الذين كانت لهم إرادات تنفيذية من المستوى الرفيع، لذلك كانوا في غاية الصبر على ما أصابهم في سبيل الله، فلم يضعفوا عن جهادهم ودعوتهم إلى الله، وواجهوا المهمات الثقال بعزم ودأب ومتابعة وجلد وصبر عظيم، وقد أمر الله رسوله محمدًا بأن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فقال له في سورة (الأحقاف 46):
(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ .... (35))
وذكر المفسرون أن أولي العزم من الرسل هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم.
ولما كانت إرادة التكليف في الفرائض جازمة سميت عزائم، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه
. قال أبو منصور: عزائمه: فرائضه التي أوجبها الله وأمرنا بها. من لسان العرب مادة (عزم).
وأبان الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، والمراد من ذلك قوة إرادته، وحزمه في الأمور، وعزمه على القيام بجلائل الأعمال، روى مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء الله فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان.
وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم الكيس العاقل ذا الإرادة القوية بأنه الذي يحاسب نفسه، ويعمل ببصيرة لما بعد الموت، وعرف العاجز ضعيف الإرادة بأنه الذي يتبع نفسه هواها، ويتمنى على الله الأماني.
عن أبي يعلى شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله.
(رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).
الكيس والكياسة في اللغة بمعنى العقل والفطنة، وبمعنى الخفة والتوقد وعلو الهمة.
فالكيس على المعنى الأول هو الفطن العاقل، والعاقل هو الذي يستطيع ضبط نفسه، بما يتمتع به من خلق قوة الإرادة المقترنة بالبصر في الأمور وتقديرها حق قدرها، فالكيس على هذا هو من يتمتع بهذا الخلق الذي هو أصل من أصول فضائل الأخلاق.
والكيس على المعنى الثاني هو عالي الهمة، وعلو الهمة أصل من أصول فضائل الأخلاق.
وكلا المعنيين يفهمان من الحديث، ففي الحديث توجيه لمرتبة الكياسة، وتنفير من مهانة العجز وضعف الإرادة واتباع الهوى، وفيه بيان للعناصر التي تجعل الإنسان كيسًا، وللعناصر التي تجعل الإنسان عاجزًا.
الكيس كما عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم هو من جمع وصفين، فهو من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت.
ومعنى (من دان نفسه) أي من حاسب نفسه على أعمالها قبل أن يأتي يوم الحساب، وإنما يفعل هذا الإنسان العاقل الذي يتبصر الواقع بإمعان، ويدبر أمر نفسه بحكمة، فيدرأ عنها الآلام والمخاطر المرتقبة، ويسعى في اغتنام الخير العاجل والآجل حيث وجده أو وجد أسبابه، وهذا هو الوصف الأول للكيس.
أما الوصف الثاني فهو أن يعمل لما بعد الموت، أي أن يكون عالي الهمة، يبذل العمل العاجل لتحصيل الخير العظيم الآجل.
ففي تعريف الرسول صلى الله عليه وسلم للكيس نجد معنى العقل المقترن بقوة الإرادة ونجد معنى علو الهمة.
وبعد هذا قابل الرسول صلى الله عليه وسلم الكيس بالعاجز، والعاجز هو من كان ضعيف الإرادة تغلبه أهواء نفسه، وهو