موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها(الظلم في المفاهيم الإسلامية)
الوصف
الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها
الظلم في المفاهيم الإسلامية
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثاني: الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها >>
4- الظلم في المفاهيم الإسلامية
لقد تحدث القرآن عن الظلم والظالمين والعقوبات التي أعدها الله في آيات كثيرة جدًّا، وأولى هذه الظاهرة السلوكية التي ترافق في معظم أحوالها قسوة القلب وجفاف خلق الرحمة منه اهتمامًا شديدًا، بغية التحذير منها، واتخاذ الوسائل لمعالجتها، وفيما يلي عرض لطائفة من النصوص القرآنية مع تدبر ما اشتملت عليه في هذا الموضوع:
1- إن الشرك بالله لظلم عظيم، ولذلك كان من وصايا لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني، لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم، هذا ما قصه الله علينا مشيدًا بوصايا لقمان لابنه في سورة (لقمان 31):
(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13))
حقًا إن الشرك بالله لظلم عظيم، وذلك لأن حق الله على عباده أن يؤمنوا به، وأن يعبدوه وحده ولا يشركوا بعبادته أحدًا، وأن يطيعوه بالتزام ما يأمرهم به، واجتناب ما ينهاهم عنه. فمن عبد غير الله مثل عبادته لله فقد وضع عبادته في غير محلها، ورفع خلقًا من خلق الله فجعله مساويًا لله ولو في أمر من الأمور، أو صفة من الصفات، وكل ذلك ظلم عظيم؛ لأنه يتعلق بحق الله الخالق الرازق المنعم المتفضل المحيي المميت، في كبرى حقوقه على عباده.
إن الشرك بالله ظلم للحقيقة العلمية من جهة، وظلم للواجب الأخلاقي من جهة أخرى.
أما كونه ظلمًا للحقيقة العلمية فظاهر، إن أحدًا غير الله لا يستحق أن يعبد من دونه، ولا يستحق أن يعبد معه.
وأما كونه ظلمًا للواجب الأخلاقي، فيوضحه أن الله وحده هو الخالق، الرازق، المنعم بالحياة والإرادة والعقل وسائر النعم العظيمة، المحيي المميت والممد بكل الخيرات، والواجب الأخلاقي يحتم على العبد المتلقي لكل هذه النعم والخيرات من ربه وحده، أن يشكره على نعمه، فيؤمن به وحده ربًا خالقًا، ويخضع له وحده، ويعبده وحده لا يشرك بعبادته أحدًا.
ويقول الله تعالى في سورة (الأنعام 6):
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82))
وقد ورد تفسير الظلم في هذه الآية بالشرك، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: (لما نزلت الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ليس ذاك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)
وفي رواية:
ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه.
2- من الظلم تعدي حدود الله، وحدود الله شرائعه التي حدد فيها لعباده أبعاد الحلال والحرام والفروض والواجبات، والأصل في الحد المعلم الذي يوضح نهاية بعد الأرض المراد تمييزها عن غيرها، فيحد صاحب الأرض عن تجاوزه إلى غيرها لئلا يظلم حق غيره، ويحد غيره عن تجاوزه إلى داخلها حتى لا يظلم حقه في أرضه.
وتجاوز حدود الله التي حدها لعباده معصية له، ومعصية الله ظلم لحقه على عباده، ولذلك كثرت في القرآن الكريم نسبة صفة الظلم إلى العصاة والفاسقين وكل المتجاوزين لحدود الله، وإن كانوا من المؤمنين؛ قال الله تعالى في سورة (البقرة 2):
(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229))
والمشار إليه (في تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أحكام شرعية سبق بيانها في آيات قبل هذه الآية، تتعلق بالخمر والميسر، وباليتامى، وبالنكاح، وبمعاشرة الزوجات، وبالأيمان، وبالطلاق، وبغير ذلك.
3- وفي معرض الحديث عن عصاة بني إسرائيل يقول الله تعالى في سورة (الأعراف 7):
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162))
الرجز: العذاب.
ويقول تبارك وتعالى في سورة (النساء 4):
(فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161))
4- ويحذر الله تبارك وتعالى رسوله من طرد الفقراء والضعفاء من المؤمنين عن مجالسه العامة، تلبية لمطالب أصحاب الغنى والقوة من المشركين، الذين كانوا يلوحون باستعدادهم للإسلام إذا طرد الرسول عن مجالسه الفقراء والضعفاء والمساكين، ويبين الله لرسوله بأنه إذا فعل شيئًا من ذلك فإنه يكون من الظالمين، قال الله تعالى لرسوله في سورة (الأنعام 6):
(وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52))
5- وشعر يونس عليه السلام وهو في بطن الحوت، أن ما نزل به قد كان بسبب ظلمه إذ ترك قومه –أهل نينوى- مغاضبًا لهم إذ لم يؤمنوا به، فنادى في الظلمات التي هو فيها في بطن الحوت، أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قال الله تعالى في سورة (الأنبياء 21):
(وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88))
فظن أن لن نقدر عليه: أي ظن أن لن نضيق عليه، اعتقادًا منه أن ما فعله لا حرج عليه فيه.
6- ونهى الله آدم وزوجه أن يأكلا من الشجرة فإن أكلا منها كانا من الظالمين، قال الله تعالى في سورة (البقرة 2):
(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35))
فدل هذا على أن مخالفة النهي بفعل ما نهى الله عنه ظلم.
7- ومن الظلم كتم شهادة الحق، وأظلم الظلم في كتم الشهادات أن يكتم الكاتم شهادة عنده من الله، أي: مما يتعلق بأمر الحقائق الربانية والمعارف الدينية الإلهية، قال الله تعالى في سورة (البقرة 2):
(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140))
8- ومن الظلم منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه والسعي في خرابها، بل هذا من أظلم الظلم لأنه صد عن سبيل الله ومنعٌ لعباد الله من عبادة الله، قال الله تعالى في سورة (البقرة 2):
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114))
فعقوبة هؤلاء الظالمين تأتيهم على ثلاث شعب:
(أ) إلقاء الخوف في قلوبهم، فهم لا يدخلون مساجد الله إلا خائفين.
(ب) معاقبتهم بالخزي في الدنيا.
(ج) معاقبتهم بالعذاب العظيم في الآخرة.
9- ومن أظلم الظلم الإعراض عن آيات الله بعد التذكير بها، وعدم الاستجابة لله فيما يدعو إليه من الإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى في سورة (الكهف 18):
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57))
فهؤلاء قد أعرضوا بعد أن ذكروا بآيات ربهم إعراض كفر وجحود، ومن أجل ذلك كانت قلوبهم في أكنة، أي: محجوبة بحجبٍ كثيفة، أو محبوسة في بيوت من الغفلة مقفلة، فهي لا تفقه الحق الذي تشتمل عليه آيات الله، ومن أجل ذلك أيضًا كان في آذانهم وقر، أي: صمم عن سماع ما يذكر بالله ويرشد إلى طريق الإسلام، وهو صمم إعراض، لا صمم فقد حاسة السمع.
وقال الله تعالى في سورة (السجدة 32):
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ (22))
ففي هذه الآية وصفهم الله بأنهم مجرمون، لذلك كان من العدل تقرير الانتقام منهم.
وقال الله تعالى في سورة (الأنعام 6):
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157))
صدف عنها: أي أعرض عنها، ويلزم من الإعراض عن آيات الله عدم قبولها والتكذيب بها، لذلك كان لهؤلاء المعرضين عن آيات الله سوء العذاب يوم القيامة بما كانوا يصدفون، أي: يعرضون كلما ذكروا بآيات ربهم.
10- ومن أظلم الظلم الكذب على الله لإضلال الناس بغير علم، قال الله تعالى في سورة (الأنعام 6):
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144))
كيف يثبت الله لهم الهداية ويحكم لهم بها وقد ظلموا ظلمًا كبيرًا، إذ افتروا على الله كذبًا ليضلوا الناس بغير علم؟
11- ومن الظلم الكبير ظلم