موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها(قسوة القلب)
الوصف
الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها
قسوة القلب
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثاني: الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها >>
قسوة القلب:
الخلق المناقض لخلق الرحمة يتمثل بقسوة القلب حينما يراد من قسوة القلب نضوب عاطفة الرحمة، وهو خلق ذميم قبيح ذو نتائج خطيرة على الفرد والمجتمع الإنساني والحياة كلها.
إذا وضعنا للرحمة سلمًا ذا درجات، ولاحظنا فيه أن نسبة الرحمة تتفاوت ارتقاء وهبوطًا، وجدنا أن الدرجة الدنيا من درجات الرحمة إذا انعدمت تم بانعدامها بلوغ أقصى دركات قسوة القلب، إذن فبمقدار انخفاض نسبة درجة الرحمة يكون ارتفاع نسبة درجة قسوة القلب، والعكس صحيح.
قسوة القلب مرض من الأمراض الخلقية، يجفف في داخل النفس الإنسانية عاطفة الإحساس بآلام الآخرين وحاجاتهم، ويشتد هذا المرض ويشتد معه الجفاف النفسي، حتى ينعدم الشعور بالواجب الفطري نحو الخالق المنعم، الذي متى شاء سلب النعم كلها، ومنها نعمة الحياة. وفي هذه الحالة من حالات الجفاف النفسي تمسي القلوب مثل الحجارة التي لا ترشح بأي عطاء، أو أشد قسوة من الحجارة؛ لأن من الحجارة ما تتشقق قسوته الظاهرة فيندفع العطاء من باطنه الرخو ماءً عذبًا نقيًّا، ولكن بعض الذين قست قلوبهم يجف من أغوارها كل أثر للفيض والعطاء.
حين تشبه القلوب بالحجارة، ويستعمل للدلالة على فقدان عاطفة الرحمة منها عبارة القسوة وما يشبهها من العبارات المأخوذة من الماديات المدركة بالحواس الظاهرة، فذلك لأن كثيرًا من المشاعر النفسية والمدركات الوجدانية غير خاضعة لمقاييس ظاهرة، حتى يستطاع الرجوع إليها، وتمييزها بعبارات يمكن فهمها بسهولة عند التخاطب، ولو وضعت لها عبارات كلامية خاصة فإنه تظل دلالاتها بسهولة عند التخاطب، ولو وضعت لها عبارات كلامية خاصة فإنه تظل دلالاتها غامضة عند معظم الناس، ومن أجل ذلك كان الأولى في الدلالة عليها استخدام عبارات معروفة الدلالة في المجال الحسي، والاستفادة من تشبيه المشاعر النفسية والمدركات الوجدانية بالمدركات الحسية الظاهرة، لتقريب الحقيقة إلى الفهم.
على أن كثيرًا من المشاعر النفسية والمدركات الوجدانية قد وضع لها تعبيرات خاصة بها، نظرًا إلى أن الإحساس بها عند معظم الناس إحساسٌ واضح في مشاعرهم، ويمكن قياسه من ظواهره ولو بشكل تقريبي، كالحب، والبغض، والإرادة، والخوف، والطمع، والفهم، والذكاء، والشجاعة، ونحو ذلك.
قسوة القلب في الدلالات القرآنية:
لقد ذم القرآن الذين قست قلوبهم من أهل الكتاب، وحذر المؤمنين بالإسلام من أن يطول عليهم الأمد في المعاصي والغفلة عن ذكر الله فتقسو قلوبهم، وأنذر القاسية قلوبهم وخوفهم من أن يحل بهم العذاب والهلاك. ويراد من قسوة القلب نضوب عاطفة الرحمة فيها، وتحجرها عن قبول دعوة الحق، فعلى المعنى الأول تكون قسوة القلب مناقضة لخلق الرحمة، وعلى المعنى الثاني تكون قسوة القلب مناقضة لخلق حب الحق.
1- خاطب الله بني إسرائيل، وحدثهم بما وصلوا إليه في أجيالهم اللاحقة من قسوة شديدة في قلوبهم، جعلتهم لا يرشحون بعطاء نابع من خلق الرحمة، ولا يخرون ساجدين من خشية الله، فقال الله تعالى خطابًا لهم في سورة (البقرة 2):
(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74))
لقد بلغت قسوة قلوبهم مبلغًا جعلها لا تتفجر من مؤثرات داخلية فتفيض بعطاء، ولا تتشقق من مؤثرات خارجية تستثير فيها الرحمة فترشح بعطاء، ولا تنصدع لمؤثرات الخشية من الله فتخضع لله وتذل، فهي أشد قسوة من الحجارة؛ لأن من الحجارة ما يتفجر فتخرج منه الأنهار، وما يشقق فيخرج منه الماء ولو بنسب قليلة، وما يهبط من خشية الله.
إنها حالات ثلاث مفقودة في المخاطبين، صورتها حالات ثلاث للصخور القاسيات:
(أ) فمن الحجارة القاسية ما يتعرض إلى اندفاع داخلي فيفجر قسوتها، ويخرج منها العطاء الثر أنهارًا.
(ب) ومن الحجارة القاسية ما يتشقق تشققًا دون التفجر، بمؤثرات من الخارج، وربما من الداخل، فيخرج منه العطاء غير الثر.
(ج) ومن الحجارة القاسية المستكبرة في المرتفعات ما تأتيه هزات وعوارض فيهبط إلى مواطن التواضع من خشية الله.
أما قلوب هؤلاء فلا تتدفق لأي مؤثر يستثير الرحمة، ولا ترشح ولو رشحًا قليلًا، وتظل في قسوتها واستكبارها فلا تذل ولا تخضع من خشية الله.
وفي الصورة أيضًا إلماحٌ لأصحاب القلوب القاسية المستكبرة، بأن من لم يتفجر قلبه من الرحمة، ولم يخضع من خشية الله، فسيكون عرضة لتشقيقه بعنف المصائب لاستخراج ما في باطنه من خير، إذا كان فيه خير، وسيكون عرضة لتصديعه وهو في مواطن استكباره لإذلاله وإهانته، لعله يخضع من خشية العزيز القهار، ويرى أن خضوعه لربه أولى له من الاستكبار.
2- وكشف الله السبب الذي جعل ذريات بني إسرائيل تقسو قلوبهم، فقال تعالى في سورة (المائدة 5):
(فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13))
فمعصيتهم لله تعالى، بنقضهم ميثاقهم، سبب لهم الطرد عن الله، وهذا الطرد أبعدهم عن مهابط رحمة الله مصدر كل الرحمات، فأمست قلوبهم جافةً قاسية، لا ترشح بعطاء ولا تلين لخير، ولا تخضع من خشية العزيز القهار.
وفي بيان هذا بيانٌ لسنةٍ من سنن الله في تكوين القلوب والنفوس، فمن استغرق في المعاصي، ونقض مواثيقه مع ربه، طرده الله من صفوف أهل التقوى، فابتعد عن مهابط رحمة الله، فقسا قلبه، وتابع مسيرته المظلمة الظالمة، حتى كان من أصحاب الجحيم.
أما الميثاق الذي نقضه بنو إسرائيل فقد ذكره الله بقوله في سورة (المائدة 5):
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12))
فعلى وفق البنود التي ذكرتها هذه الآية أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل، ولكن أجيالهم نقضوا هذا الميثاق فلعنهم الله، فقست قلوبهم.
ربنا إنا نعوذ بك من قسوة القلوب وسوء المنقلب.
3- وكشف الله السبب الذي جعل أهل الكتاب عامة تقسو قلوبهم، فقال تعالى في سورة (الحديد 57):
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16))
الأمد: في اللغة هو غاية المدة، والمراد من طول الأمد طول المدة عليهم قبل حلول الآجال التي هي آمادهم.
فأهل الكتاب عامة لما طال عليهم الأمد في النعمة، والكثرة الكاثرة منهم فاسقة منغمسة في المعاصي، نسوا ربهم، فابتعدوا عن مهابط رحمة الله، فقست قلوبهم.
وهذه سنة عامة من سنن الله في الخليقة، إن أية أمة يطول عليها الأمد وهي تتقلب في بحبوحة نعم الله على فسق ومعصية ونسيان لربها، تقسو قلوبها فلا تخشع لذكر الله وما نزل من الحق. ولذلك خاطب الله الذين آمنوا خطاب غيبة بقوله: (وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) بعد قوله لهم:(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)؟!.
ألم يأن: أي ألم يحن، ألم يأت الحين الذي يكفي لأن تنضج عنده قلوب المؤمنين، بعدما تواردت عليها الذكرى والعظات الكثيرات، فتغدو قلوبًا رقيقة لينة، تخشع برقتها ولينها لذكر الله، وما نزل من الحق من عند الله.
إن حرارة الإيمان تستطيع أن تنضج القلوب فتلينها وترققها، إذا غذاها وقود عبادة الله والعمل الصالح، والإكثار من ذكر الله وتدبر آلائه وآياته، ومراقبة عدله وفضله وسلطانه المهيمن على جميع خلقه، ومراقبة علمه ورحمته التي وسع بهما كل شيء، ومتى لانت القلوب ورقت بهذه العوامل الإيمانية والعملية المختلفة غدت كثيرة الخشوع، إذا لامسها ذكر الله استولى الخشوع عليها، واقشعرت من ورائها الجلود، وتدفقت معها الدموع، واستكانت النفس تحت عدة مؤثرات، أهمها الحب والخوف والطمع، فجللتها الخشية.
ومتى وصلت القلوب إلى هذه المرتبة تدفقت منها الرحمة، واتجهت شطر مستحقيها بالعطاء والإحسان والإيثار، وسائر الفضائل السلوكية التي تعود إلى خلق الرحمة.
ففي هذه الآية بيان للأسباب الداعية إلى خشوع القلب ولينه، وبيان للأسباب التي تتولد عنها قسوة القلب، رغم وجود أصل الإيمان في الأمة، وتنبيه على أن الطبائع البشرية على وجه العموم تخضع لقوانين ربانية ثابتة، ولسنن دائمة، ذات أسباب ومسببات، فمتى وجد كامل السبب جاء المسبب نتيجة طبيعية له، ولا تتخلف النتيجة إلا ضمن معجزة ربانية.
4- وحين تشتد قسوة قلوب الأمم، يكون آخر علاج لإصلاحها أن تنزل بها الآلام والمصائب، لتردها الآلام والمصائب إلى الله، فتلجأ إليه، وتتضرع بانكسارٍ وذل لاستدرار رحمته. فإذا لم تلينها وسيلة العلاج هذه، فقد انتهى دور ابتلائها، وجاء دور إهلاكها، ولكن يأتي إهلاكها وفق سنة الله بعد أن ي