موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها(العفو والصفح والمغفرة والمشاورة ولين الجانب)
الوصف
الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها
العفو والصفح والمغفرة والمشاورة ولين الجانب
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثاني: الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها >>
العفو والصفح والمغفرة والمشاورة ولين الجانب:
قد يكون من ظواهر خلق الرحمة العفو والصفح عن المسيئين وستر سيئاتهم، ومقابلتهم بالمغفرة، وقد يكون من ظواهر خلق الرحمة أيضًا المشاركة بالمشاورة، وكذلك لين الجانب للناس.
وقد أوصى الله المؤمنين بهذه الأخلاق، كما أمر رسوله بها في قوله في سورة (آل عمران 3):
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159))
إن هذا النص يخاطب الله به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، إلا أن ظلاله تشمل جميع المسلمين، نظرًا إلى أن الفضائل التي يشتمل عليها فضائل تعلي شأن كل من يتحلى بها.
ومع ذلك فقد وجه الله للمسلمين عامة وصايا تتضمن الفضائل الخلقية التي اشتمل عليها هذا النص الخاص بخطاب الرسول:
1- ففي العفو عن الناس نلاحظ أن الله تبارك وتعالى يصف المتقين الذين أعد لهم الجنة، بأنهم كاظمون للغيظ وعافون عن الناس، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة (آل عمران 3):
(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134))
فمن الصفات الخلقية للمتقين أنهم رحماء، إذا ظلموا من قبل إخوانهم كظموا غيظهم وعفوا عمن أساء إليهم، بدافع من خلق الرحمة.
2- ويقول الله تعالى في سورة (النور 24):
(وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22))
وقد نزلت هذه الآية بمناسبة حلف أبي بكر رضي الله عنه أن لا ينفق على مسطح، إذ قال: "والله لا أنفق على مسطحٍ شيئًا أبدًا، ولا أنفعه بنفع أبدًا".
والسبب في ذلك أن مسطحًا كان من الذين اشتركوا في إشاعة خبر الإفك على عائشة أم المؤمنين، فآلم ذلك أبا بكر وآل أبي بكر، وكان أبو بكر يحسن إليه، فينفق عليه لقرابته وحاجته، فحلف اليمين التي حلفها.
فقوله تعالى: (وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي: لا يحلف أولو الفضل منكم والسعة على أن لا يعطوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، مما لديهم من فضل وسعة في الرزق.
وبما أن الحلف الذي كان من أبي بكر إنما كان منه عقوبة لمسطح، من أجل الإساءة الكبيرة التي أساءها هذا الرجل لآل أبي بكر، في المساهمة بإشاعة خبر الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد أرشد الله تبارك وتعالى إلى العفو بقوله: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)
أي: فلا تكن الإساءة الشخصية مانعة من فعل الخير مع المسيء؛ لأن فعل الخير إنما يبتغي به وجه الله ومرضاته، لا مرضاة الذين يقدم لهم الإحسان.
ثم ألمح الله في آخر الآية إلى أن من يعفو عمن يسيء إليه فإن الله يعفو عنه، وذلك بقوله تعالى: (أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أي: إن الله يغفر لكم سيئاتكم التي تفعلونها في جنبه، إذا أنتم عفوتم عن إخوانكم وصفحتم عنهم.
وحين يرى الله عبده يعفو عن المسيئين إليه فإنه يقول له: أنا أجود وأكرم، قد غفرت لك. وكم للعبد من سيئات في جنب الله، وهو بحاجة إلى أن يغفرها الله له.
فمن كان حريصًا على أن يغفر الله له فليعف عمن يسيء إليه.
3- ويقول الله تعالى في سورة (التغابن 64):
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15))
ففي هذا النص يرشد الله المؤمنين إلى أن يعفوا ويصفحوا ويغفروا.
وقد جاء الإرشاد إلى العفو والصفح والمغفرة عقب ذكر أن من الأزواج والأولاد أعداءً، تنبيهًا على ضرورة المحافظة على وحدة الأسرة المؤمنة وترابطها. وهذه الظواهر الخلقية هي الضمان لاستمرار وحدة الأسرة وتماسكها وترابطها، يضاف إلى ذلك أن من عادة الإنسان أن يكون هو البادئ بالإحسان إلى زوجه وأولاده، وقد يسرف في عطائه وإحسانه، فإذا وجد منهم إساءة آلمته جدًّا؛ لأنه قد لا يقع في تصوره أن يكافأ على إحسانه بالإساءة، فإذا وجد منهم الإساءة اشتد غضبه، وصعب عليه جدًّا أن يعفو ويصفح؛ لأنه يعتبر ذلك غاية في الجحود ونكران الجميل.
من أجل ذلك كان بحاجة إلى توجيه إرشاد خاصٍ إليه، بأن يعفو ويصفح ويغفر، حتى يستحق من الله الغفران والرحمة، وقد ألمح الله إلى ذلك بقوله في الآية: (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أي: فإن الله يغفر لكم ويرحمكم، إذ من صفاته أنه غفور رحيم. وإن لنا سيئات كثيرة نرتكبها في جنب الله، ونحن بحاجة إلى أن يغفرها الله لنا ويرحمنا رحمات واسعات، مع أننا مغمورون بنعمته التي لا تنقطع، فلا يعظم في نفوسنا أن نتلقى الإساءة ممن نحسن إليهم، فنحن نفعل مثل ذلك في جنب الله دائمًا.
4- ويقول الله تعالى في سورة (الجاثية 45):
(قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15))
فالذين لا يرجون أيام الله هم الذين ينكرون يوم القيامة، فهم كافرون، ومع ذلك فإن الله يطلب من المؤمنين أن يغفروا لهم إساءاتهم الشخصية، مما لا علاقة له بموضوع الجهاد في سبيل الله بالقتال.
والهدف من ذلك أن يقدم المسلمون صورة الأخلاق الإسلامية العظيمة، حتى يكونوا بأخلاقهم الكريمة داعين إلى الإسلام محببين الناس به، بعيدين عن كل قسوة وغلظة في القول أو في العمل، فكم من الناس أسلموا بفضل الخلق النبوي، والخلق الإسلامي الذي كان يتمتع به المسلمون الأولون، وهذا الخلق الإسلامي لا يتعارض مع شدة البأس في الحرب. على أننا نقول: إنه لا انفصام في شخصية المسلم، إنه صاحب خلق رفيع مع المسلمين ومع غير المسلمين، وأما كون المسلمين أشداء على الكفار فهذا في ظروف الحرب وفي مواجهة المحاربين.
وقد ضرب البطل الإسلامي "صلاح الدين الأيوبي" الذي جاهد الصليبيين جهادًا عظيمًا أروع أمثلة الخلق الكريم في تسامحه وعفوه بعد أن ظفر وانتصر تأثرًا بالأخلاق الإسلامية التي ربُي عليها.
5- وإذ يوصي الإسلام بالعفو والصفح والمغفرة فإنه يقرر أن من حق المظلوم أن يعاقب على السيئة بمثلها، وفق مقتضى العدل، إلا أن العفو والصفح والمغفرة من غير تشجيع على الظلم والتمادي فيه أكرم وأرحم، وهو ما تحض عليه الأخلاق الإسلامية، وتدعو إليه مرتبة الإحسان، ومعلوم أن مرتبة الإحسان هي أعلى وأرفع من مرتبة العدل. قال الله تعالى في سورة (الشورى 42):
(فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (43))
ففي هذا النص يصف الله مستحقي ما عنده من خير باقٍ في نعيم الجنة بعدة صفات:
الصفة الأولى:
الإيمان، وإذا أطلق الإيمان في القرآن والسنة كان المراد منه التصديق الكامل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله، وثبت عنه بطريق يفيد العلم الجازم.
الصفة الثانية:
التوكل على الله، وهو اعتماد القلب على الله في تحقيق المطالب المرجوة، عند القيام بالأسباب المستطاعة، التي ربط الله بها في سنن كونه أو في تعاليم دينه مسبباتها (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)
الصفة الثالثة:
اجتناب كبائر الإثم والفواحش (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ)
الصفة الرابعة:
أنهم يغفرون لمن أغضبهم إذا هم غضبوا فعلًا (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) والسر في جعل مغفرتهم لإخوانهم مرتبة على حدوث غضبهم بالفعل، أن تكون مغفرتهم مقاومة فعلًا لعقبة من عقبات النفس، إذ من السهل على الإنسان أن يغفر إذا لم يغضب ولو أسيء إليه، ولكن تظهر ميزة خلق المؤمن حينما يغفر إذا هو غضب بالفعل من إساءة وجهت إليه.
الصفة الخامسة:
أنهم استجابوا لربهم فيما دعاهم إليه من عبادة وعمل، وأقاموا الصلاة (وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ)