موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها(الشفاعة الحسنة)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها(الشفاعة الحسنة)
245 0

الوصف

                                                    الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها

                                                              الشفاعة الحسنة
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثاني: الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها >>

الشفاعة الحسنة:

ومن ظواهر خلق الرحمة الشفاعة الحسنة، فقد يقع الإنسان في شبهة تعرضه للعقوبة عند ذي سلطان، ويكون هو بريئًا، فمن الرحمة به أن يشفع له عند ذي السلطان ذو جاه لديه، أو ذو دالة، فيكون له بذلك ثواب إنقاذه من العقوبة.

وقد يخطئ الإنسان خطيئة أو يذنب ذنبًا ليس له حدٌ شرعيٌ واجب التنفيذ، ولكنه قد يقتضي عقوبة قادر على البطش به أو الانتقام منه، ويكون الأمر مما حث الإسلام فيه على العفو، فمن الرحمة به إذا هو شعر بخطيئته ورجا العفو، أن يشفع له من تنفعه شفاعته عند ذلك الرجل. ومن أمثلة هذا شفاعة الحر بن قيس لعمه عيينة بن حصن، عند عمر بن الخطاب؛ لما أغضب عيينة عمر بقوله له: (هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل) وكان الحر بن قيس من المقربين من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وإن هذا من الجاهلين، يعني عمه عيينة، فعفا عنه عمر رضي الله عنه.

وقد يكون لإنسان حاجة مباحة عند آخر، وقد تكون للشفاعة عنده أثر في جعله يستجيب لتلبية الحاجة؛ فمن الرحمة بصاحب الحاجة أن يشفع له من تنفعه شفاعته عند صاحبه، بشرط ألا يكون من يطالب بتلبية حاجة صاحب الحاجة أحوج للرحمة به من طالب حاجته منه. ومن أمثلة الشفاعة في تلبية الحاجة شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمغيث عند بريرة رحمة بمغيث، وقصة هذه الشفاعة فيما يلي:

روى البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها في بريرة (مولاة عائشة):

خذيها فأعتقيها

وكان زوجها عبدًا، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها، ولو كان حرًا لم يخيرها.

أي: اختارت فسخ الزواج؛ لأنها غدت حرة وهو عبد.

وروى البخاري عن ابن عباس قال: كان زوج بريرة عبدًا أسود يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها في سكك المدينة، يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس:

يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا؟

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لبريرة:

لو راجعته

فقالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال:

إنما أشفع

قالت: لا حاجة لي فيه.

ومن الشفاعة الحسنة الشفاعة للقاتل عند أولياء المقتول لرفع القصاص عنه، والقبول بالدية المثقلة، بشرط إظهار القاتل توبته وندمه، وعزمه على الاستقامة وقد ألمح القرآن بالترغيب الضمني لأولياء القتيل بالعفو، وذلك في آية القصاص، إذ يقول الله تعالى في سورة (البقرة 2):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178))

فهذه الآية ترغب ترغيبًا ضمنيًّا بالعفو عن القصاص بالنسبة إلى الجريمة الأولى في حياة الإنسان، أما تكرر الجريمة منه فإنه يشعر بأن العفو عن الاقتصاص منه قد شجعه على تكرار الأمر، وقوى فيه دوافع الإجرام الخبيثة، فاعتداؤه للمرة الثانية يوجب له العذاب الأليم، والأولى في مثل هذه الحالة عدم العفو عنه، وعدم الشفاعة له.

والشفاعة قسمان:

1- شفاعة حسنة.

2- وشفاعة سيئة.

وقد أوضح القرآن هذه القسمة، وبين أن من يشفع شفاعة حسنة يكون له نصيب منها، أي: ثواب وأجر عند الله من الشفاعة التي شفعها. وأن من يشفع شفاعة سيئة يكون له كفل منها، أي: نصيب من وزر شفاعته السيئة التي شفعها، قال الله تعالى في سورة (النساء 4):

(مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا (85))

المقيت: الحفيظ الذي يعطي الشيء قدر الحاجة من الحفظ، وقيل: القدير المقتدر. يقال: أقات على الشيء اقتدر عليه.

أما الشفاعة الحسنة فهي كل شفاعة لرفع الظلم عن مظلوم، أو لإيصال الحق لصاحبه، أو العفو عما رغب الإسلام فيه بالعفو، أو للإحسان في كل ما رغب الإسلام فيه بالإحسان، أو للإصلاح بين متخاصمين، أو نحو ذلك.

وأما الشفاعة السيئة فهي كل شفاعة لدرء حد من حدود الله أو لارتكاب معصية من معاصي الله، أو لهضم حق من حقوق الناس دون أن يكون ذلك على سبيل العفو أو المسامحة من قبل صاحب الحق نفسه أو لمخالفة واجب العدل، أو نحو ذلك، ومن يشفع مثل هذه الشفاعة فهو والمشفوع له شريكان في الإثم وتحمل الوزر، وكذلك من يقبل الشفاعة فيلبي طلب الشفيع.

ولذلك غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من شفاعة أسامة بن زيد حينما شفع في حد من حدود الله، وهو حد السرقة.

روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أتشفع في حد من حدود الله؟؟

ثم قام فاختطب، ثم قال:

إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!!.

فما أروع هذا العدل النبوي وأعظمه.

ولما كانت الشفاعة الحسنة أمرًا من أمور الرحمة الاجتماعية المساعدة على فعل الخير؛ حث الإسلام عليها، ورتب الأجر على القيام بها، وكان الرسول صلوات الله عليه يحث جلساءه على الشفاعة عنده لطالبي الحاجات منه، تدريبًا عمليًّا لهم على هذه الظاهرة الاجتماعية التي تمثل مكرمة من مكارم الأخلاق.

روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال:

اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب.