موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها(إكرام الجار والإحسان إليه)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها(إكرام الجار والإحسان إليه)
248 0

الوصف

                                                    الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها

                                                          إكرام الجار والإحسان إليه
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثاني: الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها >>

إكرام الجار والإحسان إليه وحفظ حرمته:

من مظاهر التراحم بين المسلمين إكرام الجار، والإحسان إليه، وحفظ حرمته، وقد أوصى الإسلام بهذا وصايا ملحة.

إن التراحم ظاهرة من ظواهر المجتمع المسلم بشكل عام، وهو أظهر وآكد فيما بين الأقربين والجيران، والأصحاب والخلان، وكذلك بالنسبة إلى كل مستحقي الرحمة من الضعفاء وذوي الحاجات.

للجار على الجار في المفاهيم الإسلامية والآداب الشرعية حقوق تشبه حقوق الأرحام على الأرحام، فللجار حق المواصلة بالزيارة والتهادي، والعيادة والمواساة والمعونة، وله حق كف الأذى، والمناصرة بالحق، والنصح له، وتهنئته، ومشاركته في مسراته، وتعزيته ومواساته في مصائبه، وله في الأخلاق الإسلامية حق الشفعة، حتى رآه بعض الفقهاء حقًا لازمًا يحكم به قضاءً، وحق الشفعة هو حق الشريك في ملك عقار، إذا أراد شريكه أن يبيع حصته، فهو أحق بشرائها ممن عداه، بالقيمة التي يتم الاتفاق مع الغير على بيعها له. هذا ما يسمى بحق الشفعة، ويحكم به قضاءً إذا تم البيع لشخص آخر غير الشريك في ملك العقار الواحد. وحق الشفعة هذا حق قد قرره بعض الفقهاء المجتهدين للجار الملاصق على جاره.

أما كونه من فضائل الأخلاق الإسلامية فهو أمرٌ متفق عليه؛ لأنه يدخل في عموم الإحسان إلى الجار.

وقد أمر الإسلام بالإحسان إلى الجار، وأوصى به خيرًا، وجعل له على جاره حقوقًا، والنصوص في هذا متعددة، منها ما يلي:

1- يقول الله تعالى في سورة (النساء 4):

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36))

فأوصى الله في هذه الآية بالإحسان إلى الجار ذي القربى، وإلى الجار الجنب.

وللعلماء في تفسير المراد من الجار ذي القربى والجار الجنب رأيان:

الأول:
أن الجار ذا القربى هو الجار القريب، أي: الذي تكون داره قريبة من دار جاره، وعلى هذا التفسير فالجار الجنب هو الذي تكون داره مجانبة ليست بملاصقة، لكن عرف الناس يقضي بأنهما متجاوران، كالدور التي تكون في حارة واحدة، أو زقاق واحد، أو في قرية صغيرة.

الثاني:
أن الجار ذا القربى هو الجار الذي بينه وبين جاره قرابة رحم، وعلى هذا التفسير فالجار الجنب هو الذي ليس بينه وبين جاره قرابة رحم.

وقد أوصى الله بالجار عمومًا، أما الجار القريب قرابة رحم فله حقان: حق القرابة، وحق الجوار.

وأما غيره فله حق الجوار فقط.

وأوصى الله بالجار الأدنى، وبالجار غير الأدنى.

2- وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر وعن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.

فهذا الحديث يشعر بقوة حق الجار على جاره، حتى قارب أن يكون بمنزلة الأقربين، الذين فرض الله لهم حقوقًا في الميراث.

3- وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

والله لا يؤمن، والله لا يؤمن

قيل: من يا رسول الله؟ قال:

الذي لا يأمن جاره بوائقه.

أي: لا يأمن جاره شروره وغوائله.

ففي هذا الحديث بيان مشدد يتضمن التحذير البالغ من إيذاء الجار، حتى كاد يكون إيذاء الجار مخرجًا من الإيمان، أو علامة على فقد الإيمان؛ لأن من أوصاف المؤمن أن يكون مأمون الجانب، فكيف بالذي لا يأمن جاره شروره وأذاه.

4- وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت.

فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر لم يؤذ جاره، وانتهى عما نهى الله ورسوله عنه.

5- وروى مسلم عن أبي شريحٍ الخزاعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره.

فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أحسن إلى جاره، امتثالًا لأمر الله والرسول.

6- وروى الترمذي بإسناد حسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره.

ففي هذا الحديث يبين الرسول صلى الله عليه وسلم خير الجيران، ويذكر أنه خيرهم لجاره.

7- ومن تعميق معاني الأخوة بين الجيران التهادي بينهم في المآكل والمشارب وغيرها.

روى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك.

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة.

أي: ولو كان ما أهدته لها ظلف شاة. وهو عظم قليل اللحم جدًّا.

8- ومن إكرام الجار والإحسان إليه، أن يأذن الجار لجاره بأن يستخدم جداره، فيحمل عليه خشبة من أخشاب سقفه، أو نحو ذلك، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لا يمنع جارٌ جاره أن يغرز خشبة في جداره.

ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم.

نعم: لقد أمسى الجيران يشحون بهذا، ولا يعملون بهذه الوصية.

9- وروى البخاري عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال:

إلى أقربهما منك بابًا.

10- وروى الحاكم وصححه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

من كان له جار في حائط أو شريك فلا يبعه حتى يعرضه عليه.

ففي جملة هذه الأحاديث يتبين لنا إلحاح الإسلام على الوصية بالجار، والتحذير من إيذائه، ومن كثرة ما أوصى جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم بالجار، ظن الرسول أنه سينزل تشريع بتوريثه.

إن الذي يؤذي جيرانه يتنافى سلوكه مع مقتضى إيمانه إن كان مؤمنًا، وهو محروم من أوليات فضائل الأخلاق، فالإيذاء ليس من أخلاق المؤمنين في كل الأحوال ولكل الناس، فكيف بإيذاء الجار لجاره، وللجار حقوق على جاره؟

إن الجار في وصايا الإسلام معين وناصر وحارس وأمين، يطعم الجار من طعامه إذا هو جاع، ويهدي له من طبخه ولو كان غير ذي حاجة، ويشاركه في أفراحه ومسراته، ويواسيه ويعزيه في مصائبه وأحزانه، ويرشده وينصح له، ويتعاون معه على البر والتقوى، ويعوده إذا مرض، ويزوره زيارة الأخوة والمودة، ويحفظه في أهله وذريته، ولا يخونه في مال ولا أهل ولا ولد.

ومن حق الجار على الجار أن لا يحتقر هديته مهما قلت قيمتها، إذ ليس المقصود من التهادي التفاخر والتظاهر، بل المقصود الإشعار بالتذكر، وتوثيق عرى المودات. إن الهدية مهما كانت قليلة القيمة ففيها معنى التحية والتذكر، وهذان أمران ثمينان في قيمتهما المعنوية.

وفي مراعاة وصايا الإسلام لحقوق الجار تنعقد المودات، وتتوثق الروابط الاجتماعية بين المسلمين، وتتأكد ظاهرة من ظواهر الجسدية الواحدة بين المؤمنين.

ولذلك أمر الله بالإحسان للجار ذي القربى وللجار الجنب، كما أمر بالإحسان للوالدين ولذي القربى واليتامى والمساكين والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت الأيمان من أرقاء.

ومع هذه الوصايا الإسلامية بالجار نلاحظ كثيرًا من الناس يؤذون جيرانهم، ولا يؤدون لهم حقوقهم. فكم من مزعجات صوتية تكاد تبعث الموتى من قبورهم يطلقها بعض الجيران غير مراعين حقوق جيرانهم عليهم، وربما يكون ذلك في أوقات الراحة والنوم، كالقيلولة بعد الغداء، ومن الليل حتى يغدو الناس مصبحين. وكم من قمامات يرميها بعض الجيران على أبواب جيرانهم أو منازلهم، وكم يستعير بعض الناس المتاع من جيرانهم ثم لا يردونه. وكم ينظر بعض الجيران إلى محارم جيرانهم بفضول قبيح، ونظرات مريبة. وكم من جيران لا أمانة لهم على أموال جيرانهم وأعراضهم. إلى غير ذلك من قبائح ومنكرات.

وكم من رجل فاضل هجر داره ليفارق جاره، ويكف عن نفسه وأهله بوائقه.

إن جار السوء من المصائب الكبرى في الحياة الدنيا، وقد يصل السوء ببعض الناس أن يتوسط لديه العقلاء لكف أذاه عن جيرانه، فلا يستجيب لهم، ويجدون أنفسهم لدى معالجته ونصحه كمن يحلب قرن الشاة، أو يحرث في صفاة، أو يخاطب الأموات.