موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها(إكرام اليتيم)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها(إكرام اليتيم)
211 0

الوصف

                                                    الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها

                                                               إكرام اليتيم
    الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثاني: الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها >>

إكرام اليتيم:

ومن ظواهر خلق الرحمة إكرام اليتيم، بل هنا تظهر الرحمة في أعطف وأحنى وأكرم مظاهرها.

إن اليتامى صنف من الضعفاء بين الناس، والضعفاء أحوج الناس إلى الرحمة، وإلى مظاهرها وما تدفع إليه.

اليتامى ضعفاء فقدوا ظهيرهم ونصيرهم من أعطف الناس وأحناهم عليهم، وفقدوا راعيهم المزود فطريًّا بالحنان والعطف عليهم، مع حب غير مشوب غالبًا بأخلاط الأنانية والمصلحة الخاصة، ومع رغبة بالتضحية والعطاء والفداء، ومع حرص شديد على إبلاغهم مبلغ الرشد والكمال، والنضج والقوة، والدرجات العاليات في كل أمر نافع، وفي كل عمل رافع، وفي كل ارتقاءٍ مجيد.

وإذ يفقد اليتامى راعيهم الحاني فطريًّا عليهم يكونون عرضة للإهمال من جهة، ومطمعًا للبغاة من جهة أخرى.

وبين فكي الإهمال والطمع يقع اليتامى فريسة ضعيفة تستدر رحمة الرحماء، وتستجلب حنان ذوي الشفقة والرأفة، فهم في وضعهم الذي هم فيه بؤساء، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا.

من أجل كل ذلك بادرهم الإسلام بالرعاية الجماعية من قبل المجتمع الإسلامي المحيط بهم، تعويضًا لهم عما فقدوه؛ فأوصى الإسلام المسلمين برعاية اليتامى، وبذل الحنان والعطف لهم، والمبالغة في إكرامهم، وحسن تربيتهم وتأديبهم، وأمر بكفالتهم، وإدارة أموالهم بأمانة تامة، ورعاية حازمة بصيرة، وحذر من استغلال موقف الضعف الذي هم فيه تحذيرًا شديدًا، وتهدد الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا بالوعيد الشديد، وبالنار التي تكوي ما في البطون.

وحين نستعرض النصوص الإسلامية التي تعرضت لأحوال اليتامى نلاحظ أنها توصي بإعطاء اليتيم وإطعامه، والإحسان إليه وإكرامه، وكفالته والرأفة به، ومؤاخاته عند مخالطته، والقسم له من الفيء والغنائم، وتنهى عن دعّه وطرده، وتحذر من مغبة ظلمه في نفسه أو ماله، وهكذا تهتم بشأن اليتيم اهتمامًا بالغًا.

فلنواكب في مسيرة البحث قافلة النصوص الإسلامية في اليتامى، لنستجلي موقف الإسلام وطريقه في شأن هذا الصنف الضعيف من الناس:

1- يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سورة (الضحى 93):

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11))

في هذا النص أعظم مواساة ربانية للأيتام، فالله يعلن فيه أن اليتم بفقد الأبوين قد اختاره الله لأصفى أصفيائه من خلقه، محمد بن عبد الله، فحسب اليتامى مواساة وفخرًا أن يكون سيد المرسلين قد ولد يتيم الأب، ثم نشأ يتيم الأبوين، ويخاطبه الله بقوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) ؟ أي: فآواك، إذ يسر لك بدل والديك من يكفلك ويؤويك ويحنو عليك.

وإذ ذاق الرسول طعم اليتم، وعرف في نشأته مشاعره، وعرف ما يقهر اليتيم وما يواسيه، وعرف ما يفرحه ويسره ويجبر كسره ويكون له تعويضًا عما فقد من أبويه، قال الله له: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ)

إن مشاعر اليتيم ربما تبلغ من الإفراط في الحساسية أن تقهره الكلمة العابرة التي لا تثير انتباه أي إنسان آخر، ولا تحرك فيه شيئًا، لذلك كان على كافل اليتيم أن يكون دقيق الملاحظة جدًّا لما يهز مشاعر الأيتام بالألم، فلا يأتي منها شيئًا، ويوصي أسرته بمثل ذلك، فليس من السهل قهر اليتيم ولو بكلمة عابرة.

إن مراقبة الأيتام ودراسة مشاعرهم تنبئ عن أمور مهمة جدًّا من هذا القبيل، ومن الجدير بمتتبعي الدراسات النفسية بالسبر والملاحظة، أن يخصصوا فصلًا في دراساتهم لدراسة أحوال الأيتام النفسية، وما يسرهم ويواسيهم، وما يؤلمهم ويقهرهم، حتى تكون هذه الدراسات الواقعية هاديًا لكل من يتولى كفالة الأيتام، والإشراف على تربيتهم وتأديبهم وتنشئتهم، وحتى لا يكونوا في المستقبل جانحين، أو معقدين بالحقد والكراهية، والسخط على كل شيء من حولهم.

إن اليتيم قد يقهره منظر عطف الأب أو الأم على ولدهما داخل الأسرة التي يعيش في كفالتها، ويؤلمه جدًّا تفضيل غيره عليه ولو بأتفه الأشياء، ويتيقظ فيه الشعور بأنه لو لم يكن يتيمًا للقي من العطف والإكرام والتفضيل مثل الذي يلقاه الآخرون، ولكنه محروم من ذلك بسبب يتمه.

وقد يكون من الخير إقامة مؤسسات عامة لكفالة الأيتام، مزودة بأفضل وأحدث وسائل الحضانة والرعاية والكفالة الجماعية، يشرف عليها مربون ومربيات، يتمتعون بالمؤهلات التربوية العالية النظرية والعملية، وبذلك يتهيأ للأيتام وسط اجتماعي بعيد نوعًا ما عن مشاعر الحرمان والتفاضل التي يشعر بها الأيتام داخل الأسر.

ومثل هذا المشروع من الواجبات الاجتماعية التي ترضي الله وتلائم أساليب العصر الحضارية.

2- ويمتن الله على الإنسان فيقول في سورة (البلد 90):

(لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ (10) فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18))

في هذه الآيات حديث عن الإنسان ومسؤوليته في هذه الحياة. يعرف الله الإنسان بموقعه تحت سلطان قدرة الله ومراقبته، ثم يمتن عليه ببعض ما وهبه، ويضعه موضع الامتحان على مفترق طريقين، آتاه الله العلم بهما وبنتائجهما، بما أودع فيه من استعداد لإدراك ذلك، وهما طريقا الخير والشر، (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ)

ثم يبين الله للإنسان أن طريق النجاة والفلاح منهما هو طريق الميمنة، إلا أن هذا الطريق من دونه عقبة قائمة داخل نفس الإنسان، وهذه العقبة في النفس لا بد من اقتحامها لتحقيق النجاة والفلاح (فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)

ولكن ما هي هذه العقبة في النفس؟ (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) ؟ ويأتي الجواب: أنها عقبة قسوة القلب، التي ينشأ عنها البخل، والشح، وجحود الحق، وعقبة انعدام الصبر.

فكيف يكون اقتحام العقبة هذه؟

إنه يكون بتنمية خلقي الرحمة والصبر، مع الإيمان الصحيح وذلك يجعل الإنسان قادرًا على اقتحام عقبة نفسه، فيجود في مواطن المرحمة، ويثبت في مواطن الصبر. فيعتق الرقاب جودًا وإحسانًا ورحمة بالضعفاء، ويطعم الطعام في أيام المجاعة، إذ الحاجة إليه حينئذٍ ملحة، فيقدمه إلى الضعفاء من ذوي الحاجة، وفي مقدمتهم يتيم ذو قرابة، أو مسكين فقير (فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17))

مسغبة: مجاعة. متربة: فقر وحاجة. مرحمة: رحمة. مقربة: قرابة. وهي مصادر لأفعالها جاءت على وزن (مفعلة).

ونستطيع أن نفهم من إشارة الكلام في السورة، أن عتق الرقاب، وإطعام الأيتام والمساكين، من ظواهر خلق الرحمة، التي عمل الإسلام على غرسها في نفوس المؤمنين، وعمل على تغذيتها وتنميتها، وتوسيع دائرة شمولها، بدليل قوله تعالى عقب بيان اقتحام عقبة النفس وذكر أمثلة لهذا الاقتحام: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)

وهذا ما توحي به طبيعة تناسب بناء الكلم بعضه على بعض، وهو الأمر الذي يكاد يكون مطردًا في الترابط البين من معاني آيات القرآن العظيم، يشهد هذا من يتدبر القرآن بعمق في التأمل، وبصر نافذ في الفهم. إنه لم يأت ذكر تواصي الذين آمنوا بالمرحمة، الأمر الذي وجه له القرآن بعد الحث على الظواهر العملية التي تنبع في غالب أحوالها من منابع الرحمة المتغلغلة في أعماق النفس الإنسانية، إلا إشعارًا بهذه الحقيقة. فيكون الأمر بهذه الظواهر العملية تعميقًا لخلق الرحمة في قلوب المؤمنين، ثم يكون تواصي المؤمنين فيما بينهم بالمرحمة وسيلة أخرى مشجعة على ممارسة ظواهر الرحمة على اختلافها، وعاملة على تعميق هذا الخلق في النفس. وذلك لما لهذا الخلق العظيم من آثار اجتماعية جليلة.

وهكذا نلاحظ في هذا النص عناية القرآن بالتوجيه لإطعام اليتيم.

3- ويؤنب الله المشركين الذين من شأنهم أن تكون قلوبهم قاسية غير ندية بخلق الرحمة، لذلك فهم لا يكرمون اليتامى، ولا يحض بعضهم بعضًا على إطعام المساكين، فيقول تبارك وتعالى في سورة (الفجر 89):

(فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمًا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20))

في هذا النص يؤنب الله المشركين الذين جفت في قلوبهم بسبب الكفر منابع الرحمة، التي تدفع أصحابها إلى العطف على الضعفاء، وفي مقدمتهم اليتامى، فهم بقسوة قلوبهم وجفافها لا يكرمون اليتيم، ولا يتحاضون على طعام المسكين، وهم بسبب كفرهم باليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء ونعيم مقيم وعذاب أليم، دنياويون مفرطون في أنانياتهم، نامٍ في نفوسهم الطمع الشديد وحب المال، فهم يأكلون التراث أكلًا