موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها(الرحمة من صفات الله)
الوصف
الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها
الرحمة من صفات الله
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الثاني: الرحمة وفروعها وظواهرها السلوكية وأضدادها >>
الرحمة من صفات الله:
لقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلمًا، فبرحمته يهدي عباده إلى سبيل سعادتهم، وبرحمته ينزل عليهم الشريعة الكفيلة بتحقيق الخير والسعادة لهم في دنياهم وأخراهم، وبرحمته يدخل المؤمنين في جنته، وبرحمته يغفر للمسيئين، وبرحمته يستجيب للمضطرين، وبرحمته يرسل لهم الرسول الذي هو رحمة للعالمين، ولقد كتب الله على نفسه الرحمة ووصف نفسه بأنه أرحم الراحمين، وبأنه خير الراحمين، ومن أسمائه الحسنى سبحانه الرحمن الرحيم، فمن النصوص الكثيرة الدالة على سعة رحمة الله ما يلي:
1- قول الله تعالى في سورة (الكهف 18):
(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً (58))
موئلًا: أي منجى يلجأون إليه ويرجعون إليه.
2- وقول الله تعالى في سورة (الأنعام 6):
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133))
3- وقول الله تعالى في سورة (الأنعام 6):
(فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147))
4- وقول الله تعالى في سورة (المؤمنون 23):
(وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118))
5- وقول الله تعالى في سورة (الأنبياء 21):
(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84))
6- وقول الله تعالى في سورة (الأنعام 6):
(قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (12))
7- وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن لله مئة رحمة، أنزل منها رحمةً واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة.
8- وفي رواية:
جعل الله الرحمة مئة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه.
9- وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب، قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلّب ثديها تسعى، إذا وجدت صبيًّا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم:
أترون هذه طارحة ولدها في النار؟.
قلنا: لا وهي تقدر أن لا تطرحه.
فقال:
لله أرحم بعباده من هذه بولدها.
فرحمة الله وسعت كل شيء، ولكن رحمته تعالى مقرونة بحكمته.
وأسباب الرحمة في جميع الخلائق مدد من فيض رحمة الله.
10- ومن عظيم رحمته تعالى أنه جعل أدنى ثواب الحسنة عشر أمثالها، وأعلى جزاء السيئة مثلها، وأن من تقرب إلى الله مقدارًا تقرب الله إليه أضعافه.
روى مسلم عن أبي ذر الغفاري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئةٌ مثلها، أو أغفر، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بمثلها مغفرة.
والمراد تقرب العبد لربه بالطاعة والحب، وتقرب الله لعبده بالرحمة والفضل والمحبة.
11- ومن عظيم رحمته تعالى أن رحمته سبقت وغلبت غضبه، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي.
وفي رواية:
غلبت غضبي.
وفي رواية:
سبقت غضبي.
12- ومن عظيم رحمة الله تعالى أنه يغفر الذنوب لمن تاب واستغفر من عباده، معترفًا بذنبه، راجيًا عفو ربه.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه تعالى قال:
أذنب عبد ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء.
أي مهما أذنب ثم استغفر صادقًا معترفًا بذنبه راجيًا عفو ربه فإن الله يغفر له.
من صفات أصحاب الرسول أنهم رحماء بينهم:
وصف الله أصحاب محمد في التوراة بأنهم رحماء بينهم، وقص ذلك علينا في القرآن، فقال تعالى في سورة (الفتح 48):
(مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ .... (29))
فهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، بحسب ما يقتضيه منهم إيمانهم، فالإيمان بالله وباليوم الآخر متى تغلغل في القلب حقًا غرس فيه من الرحمة بمقدار قوته وتغلغله، ولكن جعل لها طريقًا لا تتعداه، وغرس فيه من الشدة أيضًا بمقدار قوته، وتغلغله، ولكن جعل لها أيضًا طريقًا لا تتعداه.
ولا تتعارض الرحمة في قلوب المؤمنين مع مظاهر الشدة على الكفار؛ لأن الغاية من هذه الشدة تحقيق أهداف الرحمة الحقيقية العامة، فالشدة على أهل الشر تمنع شرورهم، ومنع الشرور هو من الأمور العظيمة التي تستدعيها الرحمة.
ومن أمثلة الشدة بدافع الرحمة شدة المربي كلما دعت الضرورة التربوية إلى ذلك. وشدة الطبيب الناصح على المريض بالجراحة المؤلمة كلما دعت الضرورة العلاجية إلى ذلك. وكذلك المؤمنون في شدتهم على أهل الشر والظلم والبغي والفساد في الأرض، إنها شدة تدفع إليها أهداف الرحمة العاقلة.
أما الرحمة الحمقاء فقد تفضي إلى عكس ما توجبه الرحمة؛ إنها قد تسبب للمريض الهلاك، وتسبب للناشئ الفساد، وتسبب للمجتمع القلق والاضطراب والانهيار والفساد العام.
فلا تنافي مطلقًا بين الرحمة الصحيحة العاقلة والشدة في مواضع الضرورة، وحينما تكون الشدة هي المصلحة، وهي المحققة لأهداف الرحمة.