موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته((6) التقليد الأعمى والتعصب الذميم)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته((6) التقليد الأعمى والتعصب الذميم)
208 0

الوصف

                                                     بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته

                                                           (6) التقليد الأعمى والتعصب الذميم
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 9- بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته >>

(6) التقليد الأعمى والتعصب الذميم:

وكثيرًا ما يكون جحود الحق ورفض اتباعه والعمل به ناشئًا عن التقليد الأعمى والتعصب الذميم لقوم أو قادة ملتزمين جانب الباطل.

وينشأ عن التقليد الأعمى ظلمات في النفس تحجب البصيرة عن رؤية نور الحق، فلا يرى المقلد إلا عمل من يقلده، ورأي من يقلده، والسبل التي يسير فيها من يقلده، كالأعمى الغبي الذي يقوده في الطريق قائد يثق هو به، فهو يتبعه ولو قاده أو ساقه إلى هلاكه.

ويتولد التقليد الأعمى من ضعف الثقة بالنفس مضافًا إليه عامل الثقة العمياء بالشخص المتبوع، أو الجماعة أو القوم المتبوعين، وهذه الثقة تأتي من دافع المحبة، أو من دافع الهوى، أومن قناعة غير مستندة إلى أسس عقلية وعلمية صحيحة، أو من دافع الأنانية في التابع حينما يكون المتبوع من أصوله، أو من قومه، أو من بيئته، أو من ساكني وطنه.

وغريزة التقليد هي في الأصل غريزة حسنة نافعة، يكتسب بها الناشئ من بيئته كثيرًا من المعارف والمهارات والعادات والأخلاق الحسنة، التي توصل إليها الناس بعد تجارب القرون الكثيرة الأولى. لكن المفروض في الإنسان السوي الذكي العاقل المبدع أن لا يجمد عند حدود التقليد، وإلا وقفت الإنسانية عن التقدم والارتقاء إلى ما هو أكمل وأفضل وأحسن، وأن لا يمسك بمذهب التقليد كلما اكتشف أن ما يقلده أمر باطل، أو أن غيره أفضل منه وأحسن. فالإرادة الإنسانية يجب أن تكون تابعة للحق الذي يقضي به منطق العقل وتجارب العلم، ولما هو أفضل وأحسن وأكمل في منطق العقل وتجارب العلم أيضًا.

وهنا يقع كثير من الناس فريسة عدم التمييز بين التقليد المحمود والتقليد المذموم. ويتخفف كثير من الناس من أعباء البحث والنظر، وتطوير المعرفة إلى ما هو أحسن، فيقعد مع القاعدين، ويرضى لنفسه بأن يكون في كل شؤونه مقلدًا، ودفاعًا عن نفسه فيما ارتضاه من خطة التقليد دون بصر ولا نظر؛ تتولد لديه عصبية خاصة نابعة من منابع الأنانية، يتعصب فيها لكل رأي أو عمل أو مذهب أو سبيل لمتبوعه الذي يتابعه على طريقة التقليد الأعمى، ويحاول أن يجد المبررات لذلك مهما كانت مبررات تافهة مردودة في منطق العقل وتجارب العلم.

إن الإنسان لينشأ في بيئة من البيئات الاجتماعية، فيكتسب منها معارف ومهارات وعادات وأخلاقًا كثيرة، ومن هذه المكتسبات ما هو حق ومنها ما هو باطل، ومنها أيضًا ما هو صالح ومنها ما هو فاسد، وبمقتضى نشوئه في هذه البيئة يتكون في نفسه إلف لها مهما كان وضعها. وإذ يعتبر نفسه جزءًا من هذه البيئة الاجتماعية يتكون لديه بدافع الأنانية خلق التعصب لأهله وعشريته وقومه وسائر من هم في بيئته، وجميع ما هو في بيئته من مفاهيم وعادات وأخلاق؛ لأنه بتعصبه هذا يدافع عن كيانه الذاتي من وجهة نظره المنحرفة عن منهج الحق، ومنهج التفكير السليم، دون أن يسمح لعقله المتجرد عن مؤثرات البيئة أن يبحث ويناقش ويميز بين الحق والباطل والصالح والفاسد.

ويمكن أن نقول: إن في طليعة الضلالات الاعتقادية المنتشرة في جماهير كثيرة وشعوب كبرى؛ الاعتقادات والمفاهيم الوراثية المتمكنة في الأنفس بسبب التعصب لما كان عليه الأسلاف، سواءٌ أكان لها حظ من النظر أو لم يكن لها منه نصيب غير أوهام ووساوس شياطين.

وبالتتبع نلاحظ أن كثيرًا من شعوب الأرض ليس لها أية حجة فيما تتمسك به من معتقدات تافهة غير كونها معتقدات ورثوها عن أسلافهم من قومهم، فاقتدوا بهم، وتعصبوا لهم، وساروا على آثارهم، وما أكثر ما نجد في البشر من هؤلاء المقلدين المتعصبين لعقائدهم الموروثة دون بصر ولا نظر.

فمنهم الشعوب الوثنية التي نرى منها مئات الملايين في الصين والهند وإفريقيا وغيرها، على الرغم من أن العقائد الوثنية الخرافية لا تعيش في نور العلم والحضارة، وإنما يكون لها تأثيرها على البدائيين في الأمم التي تعيش في الأجواء المظلمة من الجهل والتخلف الفكري والحضاري، ولكنه لما أضيف إلى هذه المعتقدات الباطلة عنصر التعصب الأعمى والتقليد لما كان عليه الأسلاف، أمكنها أن تعيش في عصور العلم والنور والحضارة الإنسانية على الرغم من تفاهتها الظاهرة.

ومنهم أيضًا أمم الأنبياء من قبل، والأمة العربية قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الرسول لما دعاهم إلى الحق وأقام عليهم الحجج والبراهين القاطعة عارضوا دعوته بحجتهم التافهة التي ليس لها وزن في منظار العقل السليم، فقالوا له: إنا وجدنا آباءنا على أمة –أي: على طريقة- وإنا على آثارهم مهتدون. وقالوا له أيضًا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا.

وهل يصح في نظر العقل أن يستمسكوا بمعتقدات آبائهم وطرائف آبائهم في السلوك لمجرد التقليد الذي لا بصر فيه ولا نظر؟! ولنفرض أن آباءهم لم يؤتوا حظًا من العقل أو من الهداية، أو أنهم اتبعوا أهواءهم ووساوس الشياطين، أفيتبعونهم على عمى وجهل؛ وقد يكون في تقليدهم لهم الهلاك والدمار؟!

وقد ناقش القرآن المقلدين تقليدًا أعمى، المتعصبين لما كان عليه آباؤهم وأسلافهم، وذم طريقتهم، وأبان فسادها من الناحية العقلية المنطقية، ومن الناحية الواقعية، وفيما يلي طائفة من العرض القرآني لمذهب التقليد الأعمى المتعصب الفاسد عقليًّا وعلميًّا وواقعيًّا:

1- واجه كفار العرب دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلى اتباع ما أنزل الله بقولهم: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فأبان الله لهم فساد هذا المذهب التقليدي الأعمى بقوله: أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون؟! وبقوله: أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون؟! وبقوله: أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟؟!!

أي: أفهم يلتزمون اتباع ما كان عليه آباؤهم ولو كان آباؤهم محرومين من العقل نهائيًّا، ومحرومين من نور الهداية إلى الحق وسواء السبيل ومحرومين من العلم ومن المعرفة الهادية؟؟!!

إن هذا الأمر عجيب مستنكر أن يصدر من العقلاء الذين لديهم قليل من العقل والتفكير والنظر في عواقب الأمور.

قال الله تعالى في سورة (البقرة 2):

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (170)) .

ألفينا: وجدنا.

وقال الله تعالى في سورة (المائدة 5):

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (104)) .

وقال الله تعالى في سورة (لقمان 31):

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)) .

فإذ لا سند لتقليدهم من عقل، ولا من علم، لم يبق لهم إلا أن الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير، فهو يتبعونه إلى شقائهم، ويتحملون مسؤولياتهم كاملة.

2- وأبان الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه ما من رسول أرسله الله من قبله في قرية إلا قال له مترفوها –وهم أغنياء أهلها ووجهاؤهم وكبراؤهم-: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" أي: إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين وطريقة اعتقاد وسلوك، وإنا على آثارهم مقتدون.

وعلم الله رسوله أن يقول لهم في نقاش عقلي سلمي سليم: أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟؟!!

أي: أفأنتم تصرون على تقليد آبائكم فيما وجدتموهم عليه، ولو جاءكم ما هو أهدى منه وأرشد؟؟!!

إن هذا لأمر عجيب مستنكر أن يصدر من العقلاء الذين لديهم قليل من العقل والتفكير والنظر في عواقب الأمور.

قال الله تعالى في سورة (الزخرف 43):

(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ .... (24)) .

أمة: دين وملة وطريقة.

ولما اقتدوا بآبائهم زعموا أنهم باقتدائهم هذا مهتدون، فقالوا: وإنا على آثارهم مهتدون، أي: مقتدون مهتدون، وهذا الزعم غير مدعم بدليل عقلي ولا بدليل علمي، إنما هو تقليد أعمى زينته العصبية، واتباع الأهواء.

وجعل بعضهم يحذر بعضًا فيقولون: (مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ) كما جاء في سورة (سبأ 34) الآية (43).

3- وكانت حجة قوم إبراهيم عليه السلام في عبادتهم للأصنام أنهم وجدوا آباءهم يفعلون مثل ذلك، فقلدوهم في طريقتهم.

قال الله تعالى في سورة (الشعراء 26):

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلَّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81))