موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته(منازل ودركات الحسد)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته(منازل ودركات الحسد)
208 0

الوصف

                                                   بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته

                                                              منازل ودركات الحسد
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 9- بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته >>

والحسد منازل ودركات بعضها أحط من بعض وأشد:

(أ) وأهون الحسد الحسد المأذون به شرعًا، وهو حسد الغبطة، ومنزلة حسد الغبطة أن يرى الإنسان ما وهب الله غيره من نعمة حقيقية فيتمنى لنفسه من فضل الله مثلها، دون أن يريد في قلبه زوال النعمة عن صاحبها.

وهذه المنزلة لا يكاد يسلم منها أحد، إذ هي من الدوافع الفطرية الطبيعية التي لا يملك الإنسان دفعها، والتي تعتبر من الحوافز التي تدفع الإنسان إلى طلب الكمال الذي يمكن الوصول إليه، لذلك كان الحرج مرفوعًا عنها، فلا يؤاخذ الإنسان على ما يكون منه في مستواها.

ولكن للحسد المأذون به في حدود هذه المنزلة ضابطان يصونان عن الانحراف إلى ما لا خير فيه، وعن الانسياق وراء التمنيات الشاغلة للفكر، والقاتلة للعمر، من غير فائدة ترجى، ولا منفعة يمكن الوصول إليها:

الضابط الأول:
ألا تكون النعمة من الخصائص التي اصطفى الله بها بعض خلقه بالتكوين الفطري، أو بالمنح الخاصة التي لا تأتي عن طريق السعي والكسب الإنساني.

وذلك لأن شغل الفكر والنفس بتمنيات من هذا القبيل مضيعة للوقت، ومقتلة للعمر، ومجلبة للحسرات، ومزلقة من المزالق التي تهوى بالنفوس والقلوب إلى دركات الحسد الضار الذميم. وهذه التمنيات الضائعات تفسد على الإنسان حياته، إذ يعيش مع نفسه فيما يسمى بأحلام اليقظة، فيتحول من إنسان كادح عامل صاحب جد، إلى إنسان ساهم حالم خامل كسول، يرضى من حياته بأن يكون في أحلامه وأوهامه على صهوات النجوم، بينما هو في واقع حاله في الأوحال وتحت الرجوم. وبعض الناس يتجه إلى طريق التعويض، وقد يكون التعويض بارتكاب كبائر شنيعة.

فمن الناس من يتمنى مثلًا أن يصطفيه الله بالنبوة، وهذا لا يأتي عن طريق الاكتساب، إذ هو من الخصائص التي يختص الله بها بعض عباده، وحين يشتد التمني ويملأ ساحة الفكر والنفس لديه، وهو لا يملك تحقيق ما تمنى، يركب مركب الكذب، فيدعي النبوة، أو يدعي الولاية والكرامات، وربما بالغ في هذا حتى زعم للناس أن الولاية التي وصل إليها هي أعلى من مرتبة النبوة.

ومن الناس من يتمنى لنفسه كمالًا من الكمالات الفطرية التي لا يملك الإنسان اكتسابها، كالجمال، والقوة، والذكاء، وفصاحة اللسان، ونحو هذه الكمالات الفطرية. وحين يشتد هذا التمني لديه، ويملأ ساحة فكره ونفسه، يتجه إلى طريق التعويض؛ فقد يحاول أن يبرز ذاته بالاستكبار، أو بالافتخار على الناس بالمال والجاه، أو بالحسب والنسب، أو بالخزعبلات الغيبية، كالسحر والكهانة وما أشبههما.

وما أكثر حيل التعويض في الناس، إنها حيل تشمل مجالات الحياة كلها. ويهون الأمر بل قد يحسن إذا كان التعويض في طريق لا شر فيه ولا ضر، أما القباحة والشناعة والانحطاط الخلقي، فإنها تكون مرافقة للتعويض بسلوك مسالك الكذب والإفساد والشر والضر والأذى ومعصية الله جل وعلا.

الضابط الثاني:
أن تكون النعمة التي يستطاع كسبها بالسعي الإنساني من النعم التي تنفع الإنسان في آخرته، أما مظاهر النعمة التي هي من زينة الحياة الدنيا، فهي في نظر الشرع ونظر العقلاء مجالات لامتحان إرادة الإنسان في هذه الحياة، هل يشكر أم يكفر، فإذا لم تستخدم في طاعة الله بل استخدمت في معصيته كانت نقمة لا نعمة، وعندئذ لا يحسد عليها صاحبها مطلقًا، مهما كان شأنها عظيمًا في الدنيا وهل يحسد أصحاب البلايا على بلاياهم وأصحاب المصائب على مصائبهم؟؟!!

وأمثلة ظواهر النعم التي لا يحسد عليها أصحابها كثيرة مالئة حياة الناس، فذو مال كثير يستخدم ماله في شر نفسه وضرها، وفي إيذاء الناس والإضرار بهم، لا يحسد على ماله المقترن بحالته هذه، لقد كان الفقر له مع الاستقامة خيرًا له وأسعد. وذات جمال بارع، غدت لكل فاسق وطامع، حتى صارت ممتهنة حقيرة، وبؤرة للأوجاع والأمراض المؤلمة الخطيرة، لا تحسد على جمالها المقترن بحالتها هذه، ولقد كان القبح لها مع صيانتها وسلامتها خيرًا لها وأسعد. وذو ذكاء عظيم وعلم كثير يستخدمه في الشر والأذى والإضرار بنفسه وبالناس، لا يحسد على ذكائه وعلمه المقترنين بحالته هذه، ولقد كان الجهل وضعف الذكاء مع الاستقامة والسلامة خيرًا له وأحمد. وذو سلطان يظلم في سلطانه ولا يعدل، ويهلك الحرث والنسل وهو لا يعقل، لا يحسد على سلطانه المقترن بحالته هذه، ولقد كان الذل والضعف مع السلامة من الظلم والطغيان خيرًا له وأرشد، وقد تجب مجاهدته لإزالة سلطانه منعًا لأذاه، ودفعًا لشره وضره –لا حسدًا- وكذلك نظراؤه.

وهذان الضابطان نستطيع استنباطهما مما جاء في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها.

وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار.

أي: ينفق منه في سبيل الله.

فمن هذين النصين نستطيع أن نستنبط أن لحسد الغبطة ضابطين:

(أ) أن تكون النعمة مما يمكن اكتسابه بالسعي والعمل.

(ب) أن تكون النعمة مما ينفع الإنسان في آخرته ويكسبه مرضاة ربه.

ويدل أيضًا على هذين الضابطين دليلان قرآنيان:

الدليل الأول:
لما أنزل الله قسمة المواريث جعل نصيب الذكر مثل حظ الأنثيين، مراعاة لمسؤوليات الذكر في الحياة، فهو المسؤول عن معظم النفقات داخل الأسرة، متى كان قادرًا، فقالت النساء على سبيل الحسد المتضمن الاعتراض على قسمة الله في شريعته التي لا يملك الناس تبديلها: نحن أحوج أن يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد؛ لأننا من الضعفاء، والرجال أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا، فأنزل الله تعالى قوله في سورة (النساء 4):

(وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)) .

فأبان الله تبارك وتعالى أن التفضيل في أنصبة المواريث بين الذكور والإناث تابع للتفضيل في أصل الخصائص التكوينية، وفي طبيعة نظام الحياة الاجتماعية.

والشريعة المنزلة من لدن حكيم خبير لا يمكن أن تكون مخالفة للحكمة التي يقتضيها الواقع.

فتمني النساء ما فضل الله به الرجال عليهن في الميراث هو من قبيل تمني الأشياء التي لا يمكن اكتسابها بالسعي والعمل؛ لأن هذا التفضيل تابع لأصل الخصائص التكوينية الفطرية، وللنظام الأكمل الذي تقتضيه طبيعة الحياة الاجتماعية.

فقوله تعالى في الآية: (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ) بمثابة التعليل للنهي عن هذا التمني الذي تمناه النساء. إذن نصيب الرجال المقدر في تشريع المواريث تابع لطبيعة أعمالهم التي يكتسبونها بحسب مسؤولياتهم، ونصيب النساء المقدر في تشريع المواريث تابع أيضًا لطبيعة أعمالهن التي يكتسبنها بحسب مسؤولياتهن. وهذه أمور من السنن الثابتة في التكوين الطبيعي للناس، فلا يملك صنف النساء تعديلها بالسعي والعمل، وأي تمن من هذا القبيل هو من باب الحسد المنهي عنه.

وقوله تعالى في الآية بعد النهي عن هذا التمني: (وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ) يتضمن تحويلًا رفيعًا لأماني النفوس وتوجيهها لمحض فضل الله، وقطع نظرها عما في أيدي الناس من نعم فضلهم الله بها لحكمٍ هو بها عليم، ولذلك ختم الله الآية بقوله: (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) .

هذا الدليل دل بوضوح على الضابط الأول لحسد الغبطة المأذون به، وهو أن تكون النعمة مما يمكن اكتسابه بالسعي والعمل.

الدليل الثاني:
من المعروف أن قارون كان رجلًا عظيم الغنى من بني إسرائيل، ومن قوم موسى، وقد ذكر الله في القرآن الكريم أنه آتاه من الكنوز شيئًا عظيمًا تنوء العصبة من الرجال بحمل مفاتيحه، ولكن هذا الإنسان قد أطغاه المال والشعور بالاستغناء، فبغى على موسى والمؤمنين معه، فلم يكن الغنى نعمة له، بل كان نقمة عليه، إذ كان سببًا في طغيانه، ثم هلاكه، ثم في شقائه الأبدي.

لقد خرج قارون ذات يوم على قومه في زينته وخيلائه وفخره، يتعاظم بما لديه من غنى كثير، فرآه بنو إسرائيل في موكبه الذي يحسده عليه أهل الدنيا وطلابها، ولا يحسده عليه العقلاء المؤمنون طلاب الآخرة.

أما الأولون فقالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه لذو حظ عظيم.

وأما العقلاء المؤمنون الذين أوتوا العلم فقالوا: ويلكم ثواب الآخرة خير لمن آمن وعمل صالحًا، ولا يلقاها إلا الصابرون.

وبعد زمن يسير انتقم الله من قارون، فخسف به وبداره الأرض وأهلكه إهلاكًا قاسيًا فيه عظة لمن يدّكر.

فأصبح طلاب الدنيا الذين كانوا تمنوا مكانه بالأمس يذعنون لحكمة الله في بسط الرزق وتضييقه، ويعلنون فرحهم بأن الله قد منّ عليهم إذ لم يجعلهم مثل قارون في الغنى؛ لأن غناه كان وبالًا عليه، إذ كان غنى مطغيًا غير مقترن بطاعة الله والإنفاق في سبيله، مع أن الذين حسدوه من قبل قد كان حسدهم من باب حسد الغبطة، إذ تمنوا أن يكون لهم مثل ما أوتي قارون، ولكن النعمة التي أوتيها قارون لم تكن نعمة مقرونة من قبله بما ينفعه في آخرته ويكسبه مرضاة ربه.

وإذ قص الله علينا هذه القصة، دلنا ضمنًا على أن النعمة التي لا تنفع الإنسان في آخرته ولا تكسبه مرضاة ربه، هي نقمة ووبال على صاحبها، فهي ليست من النعم التي يحسد الإنسان عليها. وكذلك فهمنا الضابط الثاني لحسد الغبطة المأذون به شرعًا، وهو أن تكون النعمة مما ينفع الإنسا