موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته(عاقبة المستكبرين)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته(عاقبة المستكبرين)
205 0

الوصف

                                                    بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته

                                                               عاقبة المستكبرين
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 9- بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته >>

عاقبة المستكبرين:

من خلال استعراضنا لخلق الكبر، ولآثاره في الأنفس وفي السلوك، وما يفضي إليه هذا الخلق الذميم من غمط للحق وظلم للناس وجحود لله واستكبار عن طاعته وإعراض عن آياته، ندرك سر العقاب الشديد الذي أعده الله للمتكبرين، والمهانة والمذلة والصغار التي تصيبهم يوم الدين، إلا إذا تابوا قبل فوات الأوان.

(أ) يقول الله تبارك وتعالى في سورة (غافر 40):

(وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)) .

داخرين: أي: صاغرين أذلاء.

إنهم لما استكبروا عن عبادة الله في الدنيا عوقبوا على ذلك بالذلة والصغار في نار جهنم، وهو جزاء من جنس عملهم.

إن الله أمرهم أن يدعوه ليستجيب لهم، فاستكبروا عن عبادته بالدعاء له، فدلت هذه الآية على أن الدعاء من العبادة، وقد ورد أن الدعاء مخ العبادة؛ لأن الداعي لا يدعو ربه إلا وهو خاضع له، متذلل بين يديه، يتضرع لجنابه، مؤمن بأنه سميع مجيب قدير، وكل هذه المعاني من عناصر العبادة الحقيقية لله تعالى.

(ب) ويقول الله تعالى في سورة (الزمر 39):

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)) .

فالذين كفروا يساقون إلى جهنم زمرًا بحسب أنواع كفرهم، وبحسب مستويات كفرهم، وبحسب فئاتهم وزمرهم في الدنيا. وقد دل النص على أنهم كانوا متكبرين في الدنيا، فكانت جهنم مثوى عذاب لهم (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) .

(ج) ويقول الله تعالى بشأن المنافقين في سورة (المنافقون 63):

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5)) .

إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم كانوا كفرة مستكبرين، وكانوا فوق ذلك منافقين كذابين مراوغين.

(د) ويقول الله تعالى في سورة (الأحقاف 46):

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)) .

إن حوار الكافرين قبل دفعهم إلى العذاب أو عند دفعهم إلى العذاب أمرٌ اقتضاه إبراز صورة العدل الإلهي، فهم يقال لهم يوم الدين: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، واستمتعتم بها، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون.

فالجزاء بعذاب الهون عقاب لهم على جرمين كانا منهم في الدنيا:

الأول:
أنهم كانوا يستكبرون في الأرض بغير الحق، وعذاب الهون يناسب جرمهم هذا.

الثاني:
أنهم كانوا يفسقون.

(هـ) ويقول الله تعالى في سورة (سبأ 34):

(وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُم مُّجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)) .

مكر الليل والنهار: أي مكر في الليل والنهار.

مشهد حواري من مشاهد يوم الدين، مما سيجري من حوار بين الظالمين، بين الذين كانوا مستضعفين في الدنيا منهم وقادتهم الذين كانوا مستكبرين عليهم فأطاعوهم، فضلوا بضلالهم، وكانوا ظالمين مثل ظلمهم.

حوار يصور كيف يحاول الأتباع يوم الدين طرح مسؤولية ضلالهم وكفرهم وظلمهم على قادتهم الذين اتبعوهم، وما يرد به الذين كانوا قادتهم في الدنيا، إذ يبينون لهم أن اتباعهم لهم قد كان بمحض إرادتهم، فمسؤوليتهم عن ضلالهم مسؤولية شخصية، ولولا أنهم كانوا مجرمين في دخيلة نفوسهم ما تأثروا بهم ولا اتبعوهم، فهم لم يكرهوهم على أن يسلكوا مسلك الجريمة. فيرد الأتباع على القادة المجرمين بذكر بينات من وقائع الأحوال التي كانت في الدنيا، وبذكر الأمور التي كانوا يستخدمونها لإغوائهم وصدهم عن الهدى، وهي أمور تتسم بالمكر الدائم في الليل والنهار، وفيها أيضًا استغلال سلطة القيادة التي توجه أمرها ونهيها للأتباع.

ويأتي الحكم الرباني بتجريم المستكبرين والمستضعفين معًا؛ لأن كفر كل منهم كان ثمرة لمسؤوليته الشخصية، فإذا رأوا العذاب أسر كل منهم ندامته على ما فرط في جنب الله، ويلقى كل منهم جزاء عمله.

ويحمل القادة المضلون المستكبرون –الذين كانوا يأمرون المستضعفين بالكفر بالله- أوزارهم وأوزارًا أخرى مثل أوزار الذين أضلوهم، دون أن ينقص شيء من أوزار أولئك، وذلك لأن قادة الضلال يرتكبون في الأساس جريمتين، فهم يجازون عليهما:

الجريمة الأولى:
اختيارهم لأنفسهم سبيل الضلال.

الجريمة الثانية:
سعيهم لإغواء الناس وإضلالهم، وهم في هذا السعي يقومون بأعمال خبيثة أقوى وأشد من أعمال شياطين الجن.

إن كيد شياطين الجن كيد ضعيف لا يتجاوز حدود الوسوسة الخفية، أما كيد شياطين الإنس فهو كيد قوي، فيه وسائل شتى تضعف أمامها نفوس كثيرة. ولكن هذا لا يخفف من مسؤولية الإنسان الشخصية عما يكسبه بإرادته الحرة من ضلال هو به عالم، وهو له عارف.

ونتتبع عناصر الحوار الذي اشتمل عليه النص الذي نتدبره بالتحليل والبيان:

المشهد العام مشهد الظالمين وهم موقوفون عند ربهم يوم الحساب، لمقاضاتهم على ما كان منهم من ظلم في الدنيا، إذ كفروا بالله وجعلوا له أندادًا (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) .

هذه هي

اللقطة الأولى.

اللقطة الثانية
من هذا المشهد: حوار يجري بين جمع من الظالمين، يقول بعضهم لبعض قولًا، فيتلقى من قبيله ردًا عليه، هذه يصورها قوله تعالى: (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ) .

اللقطة الثالثة:
تبرز من جمع الظالمين فريقًا كانوا مستضعفين في الدنيا، وهم يقولون للذين كانوا قادتهم وزعماءهم: لولا أنتم لكنا مؤمنين، وهذه اللقطة يصورها قوله تعالى: (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) وذلك في محاولة دفع المسؤولية عن نفوسهم، وطرحها على قادتهم وزعمائهم، في محكمة العدل الربانية.

اللقطة الرابعة:
تبرز جانبًا من دفاع القادة والزعماء، في محاولة للتخلي عن مسؤوليتهم في ضلال أتباعهم، فحسبهم مسؤوليتهم عن ضلال أنفسهم، وحسبهم عذابهم عن جرائمهم الخاصة بهم. ويتلخص دفاعهم بإنكار أن يكونوا صدوا أتباعهم عن الهدى بعد إذ جاءهم، وبتحميل الأتباع مسؤولية اختيارهم بأنفسهم سبيل الجريمة، وهذه اللقطة من المشهد يصورها قوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُم مُّجْرِمِينَ) .

اللقطة الخامسة:
تبرز رد الأتباع على إنكار القادة والزعماء، وهذا الرد يشتمل على تقديم وثائق وبينات، تدين القادة والزعماء بأنهم كانوا يعملون على إضلال أتباعهم، وصدهم عن الهدى، وهذه الوثائق والبينات مسجلة عليهم في سجل أعمالهم لا يستطيعون إنكارها، فهي وقائع ثابتة عليهم، وهي تتلخص بأنهم كانوا يأمرون أتباعهم بأن يكفروا بالله ويجعلوا له أندادًا، وبأنهم كانوا يحيطون ذلك بالمكر الدائم، وتدبير وسائل الإضلال في خفاء، فهم يسرون بها ماكرين ليلًا نهارًا، وهذه اللقطة من المشهد يصورها قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادً ).

ويصدر الحكم على المتبوعين وعلى الأتباع بالتجريم، ولكن هذه اللقطة مطوية تدل عليها لقطة تابعة لها، وهي نتيجة عنها، وهذه اللقطة التابعة تبرز مشهد المتبوعين والأتباع وقد أخفوا ندمهم على ما فرطوا في جنب الله، بعد أن صدر الحكم عليهم جميعًا بأنهم مجرمون، ورأوا أن العذاب نازل بهم لا محالة، وهذه اللقطة يصورها قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) .

واللقطة الأخيرة:
تبرز سوق الأتباع والمتبوعين إلى العذاب بعد وضع الأغلال في أعناقهم، وهذه اللقطة الأخيرة يصورها قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) .

ويسدل الستار بإعلان مبدأ من مبادئ العدل الرباني، فيقول الله عز وجل: (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .