موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته(نظرات بين الكبر بحق وبغير حق وبين عزة نفس المؤمن وعزته بالله)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته(نظرات بين الكبر بحق وبغير حق وبين عزة نفس المؤمن وعزته بالله)

الوصف

                                                    بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته

                                                     نظرات بين الكبر بحق وبغير حق وبين عزة نفس المؤمن وعزته بالله
 الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 9- بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته >>

نظرات بين الكبر بحق وبغير حق وبين عزة نفس المؤمن وعزته بالله:

جاء في القرآن تقييد الاستكبار الذي يعاقب أهله يوم القيامة بعذاب الهون بقيد كونه استكبارًا بغير الحق، فقال الله تعالى في سورة (الأحقاف 46):

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)) .

فهم يقال لهم هذا الكلام إذ يعرضون على النار، ويجازون عذاب الهون، عقابًا لهم على استكبارهم بغير الحق، وعذاب الهون هو عذاب إذلالٍ وإهانة، وهذا النوع من العذاب يناسب استكبارهم في الأرض بغير الحق، فهو جزاء من جنس الذنب.

ونبهنا تقييد الاستكبار بكونه بغير الحق على أنه قد يوجد استكبار بالحق، والاستكبار بالحق لا يكون أمرًا مذمومًا، ولما كان الله جل وعلا أكبر من كل كبير وأعظم من كل عظيم كان تكبره سبحانه بحق، فهو محمود منه، لذلك جاء في أسمائه الحسنى أنه المتكبر العزيز الجبار، فهو بهذا يثبت لنفسه صفات حقيقية هي له.

وإنما كان الاستكبار من المخلوق مذمومًا لأن المستكبر يضع بكبره نفسه فوق الموضع الذي يستحقه، فهو باستكباره يظلم الحقيقة، ويعتدي عليها. وحينما يتعلق ذلك بحقوق الناس، فإن استكباره يجعله يغمط حقهم ويظلمهم ماديًّا أو معنويًّا. وحينما يتعلق استكباره بحقوق الله، فإن استكباره يدفعه إلى إنكار حقوق الله عليه، وإنكار نعمة الله عليه، ثم يدفعه إلى الترفع عن عبادته، ثم يدفعه إلى إنكار وجود الله تبارك وتعالى، وإلى الإلحاد به وبكمال صفاته.

أما حينما يكون التكبر تكبرًا بالحق، وذلك كاعتزاز المؤمن بعزة الله، وتقويه بقوة الله، على الكافرين الذين يعتزون ويستكبرون بقواهم المادية، وبشياطينهم ودهاتهم، فإنه يكون تكبرًا محمودًا؛ لأنه لا عدوان فيه على الحق، وإنما فيه إذلال للباطل، الذي هو ذليل بطبعه. ولذلك جاء في وصف الذين يحبهم الله ويحبونه أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، قال الله تعالى في سورة (المائدة 5):

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)) .

ولما جعل أبو دجانة رضي الله عنه يتبختر في غزوة أحد بين الصفين، وقد عصب رأسه بعصابته الحمراء إعلامًا بأنه سيقاتل قتال الموت، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.

ومن التكبر غير المذموم ما يكون لمعالجة المتكبرين وتصغير نفوسهم المستكبرة بغير حق، وتأديبهم حتى يعرفوا مواقعهم، فهو مظهر من المظاهر التي يكون الغرض منها التربية والتأديب، بشرط أن لا يكون في واقع حاله تكبرًا قلبيًّا. ومثله بعض الأعمال التي لا يقصد منها فاعلها التكبر على خلق الله، وإنما يكون له فيها مقصد آخر، كمظاهر الأناقة في الملبس والمشي والحركة والجمال في المظهر، فقد يكون الباعث عليها الكبر وقد لا يكون. وقد دل على هذا ما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر

فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن الله تعالى جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس.

وقد سبق شرح هذا الحديث في تعريف الكبر.

ولما كانت إرادة العلو في الأرض ناتجة عن الاستكبار بغير الحق، جعل الله مجد الدار الآخرة ونعيمها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا. فقال تبارك وتعالى في سورة (القصص 28):

(تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)) .

وحينما يطلب الإسلام من المسلمين أن يكونوا هم الظاهرين في الأرض وهم العالين، فإنما يطلب منهم ذلك ليقيموا العدل الذي أمر الله به عباده، وليعلوا كلمة الله في الأرض، ولينشروا دينه، وليقاوموا أعداء الحق وناشري الضلال، وليس من أجل إرضاء الأهواء في نفوسهم بأن يكونوا هم العالين في الأرض، إن هذا ليس مطلبًا إسلاميًّا بحد ذاته، وإنما هو وسيلة لغاية، فالمسلمون يعتلون عرش السلطان، ولكن مع تواضع لله، وحرص كامل على تطبيق شريعة الله والعدل بين الناس، ومع عدم الترفع عن ضعفائهم وفقرائهم، وذوي الحاجات فيهم.

بخلاف الذين لا يؤمنون بالله، فإن همهم الأعظم أن تكون لهم الكبرياء في الأرض، وهم لا يفهمون غير ذلك، ومن أجل ذلك لم يفهم فرعون وحاشيته إلا أن موسى وهارون قد جاءا طالبين الكبرياء في الأرض، قال الله تعالى في سورة (يونس 10):

(ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)) .

فقد كان تخوف فرعون وملئه من هارون وموسى تخوفًا على موقعهم الذي لهم فيه الكبرياء في الأرض.

على أن الاستكبار النفسي وما يتصل به من تفاخر لا يعدو لدى التحقيق أنه من قبيل اللذات الوهمية التي تجر لصاحبها متاعب كثيرة في الحياة الدنيا، فضلًا عما تجره من شرور وعواقب وخيمة.

وقد مثل القرآن مختلف زينات الحياة الدنيا ولذاتها بالنبات الذي يخضر فترة قصيرة من الزمن، ثم يصفر ثم يكون حطامًا، فليس من شأن المؤمن العاقل أن يعلق كل همه بها، ويتحمل ما تجره وراءها من عواقب مؤلمة، فقال تعالى في سورة (الحديد 57):

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)) .

فمثل الحياة الدنيا كمثل النبات، الذي يخضر بالغيث، فيعجب الكفار (أي: الزراع) نباته، فإذا مر عليه زمن يسير ذهبت خضرته ونضرته، فيصفر، ثم يدركه الجفاف الشديد، فيتحطم، وينتقل النص سريعًا من المثل إلى الممثل له، ويرتب الحكم على المثل كأنه عين الممثل له، فيقول تبارك وتعالى فيه: (وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ) فيقرر أنواعًا ثلاثة من نتيجة الحساب يوم القيامة، بعد تحطيم أجسام الحياة الدنيا، وبعد البعث للجزاء، وهذه الأنواع الثلاثة هي:

أولًا:
العذاب الشديد لمستحقي العذاب.

ثانيًا:
المغفرة من الله للمؤمنين العصاة، الذين تقضي الحكمة الإلهية بمنحهم العفو والغفران.

ثالثًا:
الرضوان من الله، وذلك بالنعيم المقيم في الجنة دار النعيم، لمستحقي هذا الرضوان من المتقين.

والاستكبار شيء وعزة نفس المؤمن وعزته بالله شيء آخر، فالأول –كما عرفنا- سلوك قبيح، سواء أكان في داخل النفس أو في ظاهر العمل، أما الثاني فهو أمر محمود وسلوك حسنٌ مأجور.

كم من مواقف لا يحسن فيها التواضع ولا الخضوع، بل تجب فيها عزة النفس لا عن كبر ولا عن عجب، ولكن عن اعتزاز بالله، وثقة به، وتوكل عليه، واستغناء بجوده وعطائه، وقناعة بما يولي من نعم. وهذا السلوك الخلقي قد يشتبه بالكبر في بعض الأحوال ولكنه ليس منه.

إن فضيلة خلق عزة النفس بالله وتعاليها عن مواطن الذل من أجل الدنيا من فضائل أخلاق المؤمنين. فالمؤمن يكون متواضعًا لله متذللًا لإخوانه المؤمنين غير مستكبر على خلق الله، ولكنه مع ذلك يكون عزيز النفس بالله، لا يهين نفسه لتحصيل دنيا، أو استرضاء أرباب المال أو السلطان لجلب المنافع المادية عن طرقهم –فهو أرفع من هذا- ولكن اعتزازًا بالله وثقة به، وتوكلًا عليه، واستغناء بما عنده عما عند عبيده الذين لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، وإيمانًا بحكمته في عطائه وفي لون امتحانه، وقناعة بما وهبه من نعم، وبما منحه من تكريم.

إن من يؤمن بالله ويشرف نفسه بعبوديته له لا يسمح لنفسه بأن تذل إلا حيث يكون التذلل والخضوع جالبًا لمرضاة الله تعالى، ومحققًا لمصلحة اجتماعية أو نفسية يهدف لتحقيقها الإسلام. وحين يأمر الله المسلم بأن يكون عزيز النفس بربه، فكرامته الإنسانية المعتزة بالله تفرض عليه أن يكون مترفعًا عن مواطن المهانة والذلة والصغار. ولما كانت العزة –(أي: الشدة والقوة)- التي يرافقها ترفع عن الضعة والمهانة والصغار هي لله تعالى كان المؤمنون الصادقون هم أهل العزة الحقيقية، قال الله تبارك وتعالى في سورة (المنافقون 63):

(وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (8)) .

فالذين يوالون غير المؤمنين اعتزازًا بهم، واستنادًا إلى قوتهم، فيخضعون لهم ويذلون لسلطانهم، ويرضون الدنية في دينهم، يسلكون غير سبيل المؤمنين.