موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته(تربية نبوية لانتزاع جذور الكبر الطبقي)
الوصف
بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته
تربية نبوية لانتزاع جذور الكبر الطبقي
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 9- بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته >>
تربية نبوية لانتزاع جذور الكبر الطبقي:
وفي تربية الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه على انتزاع جذور الكبر الطبقي من نفوسهم، وإلغاء التفاضل بغير التقوى والعمل الصالح والصفات الشخصية ذات الاعتبار في المفاهيم الإسلامية:
1- روى مسلم عن عائذ بن عمرو المزني –وهو رجل من أهل بيعة الرضوان- أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلالٍ في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريشٍ وسيدهم؟؟! فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال:
يا أبا بكر لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك.
فأتاهم فقال: يا إخوتاه، آغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي.
آغضبتكم: أي أأغضبتكم؟ بتسهيل الهمزة الثانية.
2- وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
أشعث أغبر: أي ملبد الشعر مغبره.
3- وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، أو شابًا، ففقدها أو فقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال:
أفلا كنتم آذنتموني به
. فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال:
دلوني على قبره
. فدلوه، فصلى عليه ثم قال:
إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم.
تقم المسجد: أي تزيل القمامة والأوساخ منه.
آذنتموني به: أي أعلمتوني به.
من هذه الأحاديث يتبين لنا أن الإسلام ألغى مفاهيم التفاضل الطبقي على أساس المال والحسب، أو الأصل والنسب، أو الولاية والمنصب، أو اللون والعرق، وعمل على تربية المسلمين على ذلك، وغرسه في أخلاقهم الاجتماعية.
فإذا خرج بعض المسلمين عن هذا المبدأ الاجتماعي العظيم في الإسلام فذلك لنزعة جاهلية فيه، ومتابعة لأهواء الأنفس، واغترار بزخرف الحياة الدنيا ومظاهرها التي لا قيمة لها في الحقيقة.
وعلى هذه المفاهيم الإسلامية في إلغاء التفاضل الطبقي الجاهلي ربى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فمن ذلك تخويف الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه من غضب الله، إذا هو أغضب بعض ضعفاء المؤمنين، في تلويم يسير وجهه أبو بكر لهم؛ لأن هذا التلويم كان فيه رائحة مشاعر التفاضل الطبقي، مع أن الإسلام قد ألغاه وسوى بين المسلمين. وربما كان أبو بكر قد رأى أنه ليس من الأدب الاجتماعي أن يوجه هؤلاء النفر من المؤمنين ما وجهوه من كلام ضد شيخ قريش وسيدهم، حتى لا تتحرك فيه النزعة الجاهلية، وحتى يظل قلبه مؤلفًا على الإسلام.
ومن ذلك تأديب الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه، في تغاضبه مع بلال الحبشي رضي الله عنه.
فقد تغاضب أبو ذر وهو عربي من غفار مع بلال الحبشي مولى أبي بكر رضي الله عنهم، وتطور النزاع بينهما إلى أن أخذت أبا ذر الحدة، فقال لبلال: يا ابن السوداء. فشكاه بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله لأبي ذر:
طف الكيل، أتعيره بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية.
قال أبو ذر: على ساعتي هذه من كبر السن؟ -ظانًا أن قصد الرسول بالجاهلية ما يعتري الشباب من طيش يخرجهم عن حد الاعتدال- فقال له الرسول صلوات الله عليه:
نعم هم إخوانكم
أي والأخوة تستلزم التحقق بمعنى إلغاء فوارق العرق واللون واللغة والطبقة الاجتماعية.
فندم أبو ذر رضي الله عنه وتاب، حتى إنه أمر بلالًا أن يطأه على وجهه، مبالغة منه في إعلان التوبة والندمن واسترضاء لبلال مما عيره به من سواد أمه.
وهكذا رفع الإسلام من شأن الضعفاء في المجتمع، حتى سواهم بغيرهم من ذوي المكانات، وحصر التفاضل بالعناصر الشخصية الذاتية من علم وعمل، وأبان أن التفاضل عند الله بالتقوى والعمل الصالح: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ).
وبناء على هذا فرب أشعث أغبر يزدريه الناس فيدفعون الأبواب في وجهه، هو صاحب مكانة عظيمة عند الله بسبب تقواه، فلو أقسم على الله في أمر من الأمور، فقال مثلًا: والله ليحدثن هذا الأمر، اعتمادًا على أن الله سوف لا يخيب ثقته به، لأبر الله قسمه.
وفي تربية الرسول صلى الله عليه وسلم العملية للمسلمين كان يشعرهم دائمًا باهتمامه وعنايته بشأن فقراء المسلمين وضعفائهم، فمن ذلك قصته مع المرأة الفقيرة السوداء التي كانت تقم المسجد، فلما ماتت ودفنت دون إعلامه بشأنها، عاتب أصحابه على كتم موتها عنه، وسعى إلى قبرها وصلى عليها. وتردد راوي الحديث هل هي امرأة أو رجل.
ورغم كل ألوان التربية الإسلامية في هذا الموضوع، يظل من الصعب على الناس أن يتحرروا من تأثير مظاهر الحياة الدنيا وما يملك الناس منها، لدى تقرير بعضهم قيمة بعضٍ الاجتماعية.
فرغم إلحاح التربية الإسلامية وتعاليم نصوصها على أن التفاضل بين الناس ينبغي أن يقتصر على التفاضل في القيم الحقيقة –وهي التي تستند إلى مقدار العلم والعمل الصالح والخصائص ذات الفضل الحقيقي- يظل الناس مشدودين إلى الأرضيات والمظاهر الخادعات، كالمال والحسب، والعرق والنسب، والمنصب والجاه، فإذا نظروا في أقدار الناس الاجتماعية وضعوا هذه الأمور وما شابهها نصب أعينهم، وقاسوا أقدار الناس بها، وقوموهم على مقدار ما يملكون منها.
وليس هذا جديدًا في الناس، بل هم كذلك في كل عصر وفي كل مصر، وفي كل قوم وفي كل أمة، وقد جاء الإسلام فهدم من هذه المفاهيم الخاطئة تهديمًا كثيرًا، وعمل على تربية المسلمين تربية عملية تحررهم من سلطان هذه المفاهيم على نفوسهم ومشاعرهم. وربما امتحن الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ليرى مدى تحررهم من سلطان هذه المفاهيم، فإذا وجد أنهم ما زالوا غير متحررين منها صحح لهم مفاهيمهم، وأرشدهم إلى المقياس الحقيقي الذي يجب أن تقاس به أقدار الناس، وإلى الصفات الذاتية التي بها يتفاضلون حقًّا.
فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي قال: مر رجلٌ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس:
ما رأيك في هذا؟.
فقال: رجلٌ من أشراف الناس، هذا والله حريٌ إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم مر رجلٌ، فقال له رسول الله عليه وسلم:
ما رأيك في هذا؟.
فقال: يا رسول الله، هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حريٌ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هذا خير من ملء الأرض مثل هذا.
أي هذا الذي تقول في شأنه بحسب مقياسك المادي ما تقول من نزول في قيمته الاجتماعية، هو خير من ملء الأرض من مثل ذلك الرجل الذي عظمت من شأنه وقدره بين الناس.
فصحح الرسول صلى الله عليه وسلم نظر الرجل إلى الأمور، ووجهه ضمنًا للمقياس الحقيقي الذي تقاس به الفضائل، وتقوم به أقدار الناس، بعد أن امتحن مدى تأثير المفاهيم الإسلامية في هذا المجال على نفسه. ورأى أنه لم يستطع أن يتحرر من المفاهيم غير الإسلامية، ذات السلطان القوي على نفوس الناس بحكم العادات والتقاليد، وبتأثير المظاهر الخادعة، وتعلق النفوس بزينة الحياة الدنيا.
وقد أبان الرسول صلى الله عليه وسلم أن قيم الحياة الدنيا ومفاهيمها الخاصة بها تتلاشى عند الله يوم القيامة، فلا جاه يومئذ من جاه الدنيا ولا نسب، ولا مال ولا نشب، ولا مناصب ولا وزارات، ولا ملك ولا إمارات، ولا جبارون ولا طغاة، ولا متكبرون ولا عتاة، ولكن إيمان وتقوى وعمل صالح وإخلاص في ابتغاء مرضاة الله.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة.
فالعظم والسمن وضخامة الأجسام وما يشبه ذلك من مظاهر ليس لها ثقل في ميزان قيم الناس وأقدارهم يوم القيامة.
إن الموازين تختلف، فلكل نوع من الأنواع ولكل جنس من الأجناس ميزان يزن خصائصه، فالميزان الذي توزن به البقول، لا يشبه الميزان الذي توزن به العقول. والميزان الذي توزن به الأقطان، لا يشبه الميزان الذي يوزن به الوجدان. وما توزن به الأحمال، غير الذي توزن به الأعمال.
وكذلك في الماديات، فموازين للحرارة، وأخرى للكثافة، وغيرها للضغط، وهكذا. وكل واحد منها لا يحس بأية قيمة من القيم التي يحس بها الآخر.
وميزان يوم القيامة لا يثقله إلا الإيمان والتقوى والعمل الصالح الخالص لوجه الله عز وجل. ومن أجل ذلك يأتي الرجل العظيم السمين الضخم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة؛ لأنه لا يحمل من القيم المعتبرة عند الله ما يثقل به ميزانه. ويومئذ تكون القيم التي كان الناس يفتخرون بها في الدنيا قيمًا مزيفة خادعة لا وزن لها.
وفي طليعة من تخف موازينهم يوم القيامة الجبارون والمتكبرون، وهؤلاء تهوي رؤوسهم في جهنم. وفي طليعة من تثقل موازينهم يوم القيامة فقراء المؤمنين ومساكينهم إذا كانوا صالحين.
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى الله بينهما: إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما علي ملؤها.
(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)) .
أمه هاوية: أي أم رأسه هاوية في نار جهنم. أو المصير الذي ينتهي إليه فيكون بمثابة أمه التي يرجع إليها عند الفزع هي (هاوية) المفسرة بأنها نار حامية؛ فتكون هاوية على هذا اسمًا من أسماء النار