موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته(آثار الكبر في السلوك)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته(آثار الكبر في السلوك)
253 0

الوصف

                                                                بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته

                                                                          آثار الكبر في السلوك
                         الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 9- بواعث جحود الحق والكفر به مع ظهوره ووضوح أدلته >>

آثار الكبر في السلوك:

ويتولد عن داء الكبر الذي تصاب به النفوس أنواع قبيحة من السلوك الداخلي والخارجي.

فالمستكبر قد يجحد الحق الذي لغيره، ولا يعترف له به؛ لأنه لا يريد أن يخضع لغيره، أو لا يريد أن يفوق عليه أو يساويه في الامتياز أحد. وحين لا يملك تغيير الواقع فما عليه إلا أن يستره بغمطه وجحوده وتنقيصه، وبالتعالي عليه في تصرفات وأعمال من شأنها إشعار الآخرين بأنه ذو امتياز أسمى مما لغيره.

وقد يصل المستكبر إلى مستوى بالغ في الإجرام، إذ يعمل على قتل ما لدى غيره من خصائص تمتاز على ما لديه منها، أو قتل غيره وصرفه من الوجود نهائيًّا حتى لا يكون له منافسًا.

ومتى تمادت الأنفس في استكبارها وغرورها أصابها مس من الطغيان، وكان كبرها أشبه ما يكون بالطوفان. وطوفان الكبر قد يصل في أقصى مده إلى جحود الله والاستكبار عن عبادته وطاعته، وتحدي قوته وقدرته، وجلاله وقهره لعباده، ويقف في أدنى مده عند حدود احتقار الناس والازدراء بهم، واستصغارهم، والاستهانة بما عندهم والتعالي عليهم.

والغرور بالنفس ينفخ في صدور المستكبرين حتى يروا أنفسهم عظماء كبراء، وهم في واقع حالهم صغار جدًّا. إن شعورهم حول أنفسهم شعور هوائي صنعته الأوهام، لا يصاحبه نماءٌ حقيقي فيما تملكه ذات المستكبر من خصائص وقوى معنوية أو مادية.

وربما يغشي الكبر على البصائر فيعميها عن رؤية الحق حقًّا والباطل باطلًا، ومن أجل ذلك تتمادى في طغيانها. وما يزال الغرور بالنفس ينتفخ وينتفخ، وتنتفخ النفس به، حتى تنفجر وتتمزق، أو تصطدم بما يهشمها ويحطمها ويمزقها، وهذا من السنن الربانية الدائمة التي تقدم شواهدها من الواقع الإنساني، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلًا.

ومن آثار الكبر في السلوك الظاهر، الهزء والسخرية بالآخرين، واحتقار الناس وازدراؤهم، وحركات: الغمز، والهمز، واللمز، والتعيير، والتنقيص وقد يكون من آثاره أيضًا الغيبة، وفضح العيوب، وكشف نقائص الناس.

ومن آثاره أيضًا التبختر والخيلاء والمرح في المشية، وتصعير الخد، والإعراض عن حديث المتحدث، والنظر الشذر إلى الناس، وجر الثوب من الخيلاء، والتطاول في الجسم، والتقعر في الكلام والتشدق فيه، والإجابة بحركات الوجه أو اليدين أو غيرهما من الجسم، كرفع الحاجبين، وغمز العين، وشد الحنك، ومط الشفاه، وإشارة اليد، وإدارة الظهر، والالتفات بالعنق، ورفع الرأس أو خفضه.

ومن آثاره أيضًا الترفع عن مجالسة ضعفاء القوم وفقرائهم ومساكينهم، والترفع عن محادثتهم ومؤاكلتهم ومشاربتهم. ومنها التعصب للرأي والعناد على الباطل رغم وضوح الحق، وهكذا إلى أمور كثيرة جدًّا.

وقد عالج الإسلام آثار الكبر في السلوك ووجه إلى الآداب الإسلامية والفضائل السلوكية في هذا المجال، ونورد فيما يلي طائفة من هذه المعالجة:

1- الاستكبار عن الإيمان بالله وعبادته: ولقد أولى القرآن الكريم هذه الظاهرة من ظواهر الكبر عناية عظيمة، ووجه لها اهتمامًا كبيرًا، وسنتبين مبلغ ذلك عند الكلام على الذين استكبروا، فكفروا واستنكفوا عن عبادة ربهم، ونقتصر هنا على قول الله تعالى في سورة (النساء 4):

(لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (173)) .

وقول الله تعالى في سورة (الأعراف 7):

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)) .

وقوله فيها أيضًا:

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)) .

فأبان الله في هذه النصوص ما لداء الكبر من تأثير قد يبلغ بصاحبه إلى مستوى التكذيب بآيات الله وهي حق، والاستكبار عن اتباع ما جاء فيها من أوامر ونواه، والاستنكاف عن عبادة الله.

وأبان الله أن الأطهار الأبرار الكاملين من عباده لا يستنكفون عن عبادته والخضوع له، فالمسيح عيسى ابن مريم لن يستنكف عن أن يكون عبدًا لله، وكذلك الملائكة المقربون لا يستنكفون عن عبادته والخضوع له.

ثم أبان الله عاقبة المستكبرين عن الإيمان به وعن عبادته، فأولئك يعذبهم الله عذابًا أليمًا، ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، وأولئك محجوبون عن السماء ومعارج الارتقاء، فلا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة، ولهم من جهنم مكان معدٌ لهم ممهد لعذابهم، وتنزل من فوقهم غواشٍ من العذاب.

وكذلك جزاء المجرمين والظالمين.

2- تصعير الخد للناس والمرح ومشية الخيلاء: ولقد عرض القرآن النهي عن هذه الظاهرة من ظواهر الكبر في السلوك ضمن وصايا لقمان لابنه، وقد ذكرها الله مؤيدًا لها ومشيدًا بحكمة لقمان، ففي سياق ذكر وصايا لقمان لابنه يقول الله تعالى في سورة (لقمان 31):

(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (17) وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَو مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)) .

أما تصعير الخد للناس فهو إمالة الوجه عنهم على سبيل الإعراض عن استكبار، وأصل الصعر ميل في الوجه، وقيل: هو ميل في الخد خاصة، وقيل: هو ميل في العنق وانقلابٌ في الوجه إلى أحد الشقين. وقد اشتهر عند العرب قولهم: صعر فلان خده وصاعره إذا أماله من الكبر، قال الشاعر العربي جرير بن عبد المسيح، المعروف بلقبه (المتلمس):

وكنا إذا الجبار صعر خده         أقمنا له من درئه فتقوما

أي: كنا إذا أمال متكبر خده أذللناه حتى يتقوم ميله. من درئه: أي من عوجه، فالدرء: هو العوج في القناة وفي العصا وفي غير ذلك.

وقياسًا على تصعير الخد نستطيع أن نقول: إن كل إعراض عن الناس على سبيل الكبر يدخل في ضمن هذه الظاهرة، سواء أكان ذلك في الخد، أو في الوجه كله، أو في الجسم كله؛ لأن المعنى في كل ذلك واحد، ولذلك فسر الفراء تصعير الخد الوارد في النص بالإعراض من الكبر، وعلى نحو ذلك فسره غيره، وهذا التعميم يدل عليه الغرض العام من النهي.

وأما المشي في الأرض على وجه المرح والاختيال استكبارًا على الناس وافتخارًا، وتعاليًا عليهم، فهو عمل يبغضه الله ورسوله، إلا إذا كان من ورائه تحقيق غرض مشروع، كالتبختر في مواطن قتال أعداء الله، لإلقاء الوهن والذعر في قلوبهم، مع ابتغاء مرضاة الله في ذلك.

والمرح يأتي في اللغة بمعنى شدة الفرح والنشاط، حتى يجاوز قدره، ويأتي أيضًا بمعنى التبختر والاختيال. فقوله: (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا) : بمعنى ولا تمش في الأرض مشية تبختر واختيال، ولذلك ختم الله الآية بما يناسب هذا المعنى، فقال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) أي: لا يحب كل مختال على الناس، مستكبر عليهم بمشيته بينهم أو بإعراضه عنهم، ولا يحب كل فخور على الناس بنفسه، أو بما آتاه الله من قوة، أو مال، أو نسب، أو جاه، أو ذكاء قلب، أو جمال وجه وحسن طلعة.

ومن المعروف أن الامتياز بالخصائص ينبه عرق الصلف، ويغذي جرثومته، ولذلك قال العرب في الحكمة السائرة: آفة الظرف الصلف. والظرف في اللسان البلاغة وحسن المنطق، وفي الوجه حسن الصورة، وفي القلب الذكاء وسرعة الخاطر، أما الصلف فهو المبالغة في تصنع الظرف حتى يصل إلى درجة الكبر على خلق الله، والاستعلاء عليهم بميزة الظرف.

وقد نهى الله عن مشية المرح بقوله تعالى في سورة (الإسراء 17):

(وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37)) .

وإذ نهى الله في هذه الآية عن مشية الخيلاء، كشف للمستكبر واقع حاله الصغير، فأبان له أنه حين يضرب الأرض برجله، ويتطاول مستعليًا بقامته على الناس، لن يستطيع أن يخرق الأرض أو أن يبلغ الجبال طولًا، وفي هذا إمعان إشاري بتحقير المستكبر؛ فالأرض التي يمشي عليها أصلب من قوته، والصخور الجامدة المكدسة جبالًا أطول من قامته مهما تطاول، فلا يزعمن أن شدة الوطء أو تطاول الجسم يمنحانه عظمًا حقيقيًّا، إنه يقول له فيما أشار به إليه:

مهلًا بنفسك أيها المستكبر المتبختر، إلى أين أنت ذاهب بنفسك متطاولًا بجسمك، إلى جهة الأرض فترفسها بقدميك، وإلى جهة السماء فتنطحها برأسك، هون عليك، إنك لن تستطيع أن تخرق الأرض مهما تبخترت عليها، إنك إن تحديتها هشمت جسمك وحطمته. ثم إنك لن تبلغ الجبال طولًا، مع أنها مهما علت في جسمها عن مستوى الأرض فهي أقل قيمة من الإنسان الذي فضله الله بكمالاته، فلا تحاول أن تكسب المجد بالتبختر والخيلاء على خلق الله، إن المجد الإنساني لا يكون بطول الأجسام ولا بعرضها، ولا بتبخترها وضربها الأرض بأقدامها حين مشيها.

يا لهذا من تبكيت للمستكبرين بديع ورائع، إنه يقول لهم: تواضعوا لله، واخفضوا أجنحتكم للمؤمنين من عباد الله، فرب ضعيف مستضعف مدفوع بالأبواب هو عند الله أفضل منكم، وأعظم مجدًا وأعلى مكانة، وما تفعلون