موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرجوع إلى الحق(التربية الإسلامية على خلق الرجوع إلى الحق)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرجوع إلى الحق(التربية الإسلامية على خلق الرجوع إلى الحق)
239 0

الوصف

                                                               الرجوع إلى الحق

                                                 التربية الإسلامية على خلق الرجوع إلى الحق
                        الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 7- الرجوع إلى الحق >>

التربية الإسلامية على خلق الرجوع إلى الحق:

لقد اعتنت التربية الإسلامية بتربية المسلمين على خلق الرجوع إلى الحق وعدم التمادي في الباطل، واستثارت فيهم بواعث الإيمان الدافعة إلى التزام الحق وعدم الخروج عن دائرته.

لذلك كان من الفضائل الخلقية التي يتحلى بها المؤمن الصادق وقوفه عند حدود الحق، وحين ينزلق بعوامل الخطأ أو الغلط أو غير ذلك إلى مواقع الباطل، فإنه يجد نفسه مدفوعًا إلى الرجوع إلى الحق، ولو اضطره ذلك أن يصارع نفسه وهواه، ويصرعهما بقوة إرادته، ولو كلفه ذلك قهر أنانيته وكبريائه وعزته وأنفته الآثمة، إنه بصدق إيمانه وسمو خلقه يخضع للحق، ويستجيب له، ويرجع إليه متى استبان له وظهر.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا وفي سائر الفضائل قدوة حسنة للمؤمنين، وكان أصحابه الذين اهتدوا بهديه قدوة حسنة لمن وراءهم، ونحن نعلم ما للأسوة الحسنة من أثر عظيم في مجال التربية الخلقية والسلوكية.

فمن أمثلة التربية النبوية على الرجوع إلى الحق ما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، إذ نزل في موقع ليس هو الأفضل في الخطة الحربية المثلى، وأمر المسلمين بنزوله، فقال له أحد أصحابه وهو الحباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

بل هو الرأي والحرب والمكيدة

، فقال الحباب: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب،  أي: نطمر ما وراءه من منازل إلى ماء بدر.   ثم نبني على الماء حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه إلى رأي الحباب بن المنذر، وقال له: لقد أشرت بالرأي، ونهض سريعًا، ونهض من معه من المسلمين، وعمل برأي الحباب رجوعًا إلى ما هو أفضل، ولم يجد حرجًا في نفسه أن يتراجع عن رأيه، ويعمل برأي أحد أتباعه صلوات الله عليه، وقد أعطى الرسول أصحابه في هذا درسًا عمليًّا في فضيلة الرجوع إلى الحق.

ومن أمثلة التربية النبوية على الرجوع إلى الحق، ما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن ترك تأبير النخل للقاحها: وذلك أنه مر على طائفة من أصحابه في نخيلهم، فرآهم يلقحون النخل لتنضج ثمارها، فبدا له أن هذا اللقاح قد يحصل دون أن يفعله الناس ودون أن تتخذ له الأسباب المادية. وربما كان صلوات الله عليه في تلك الحالة مستغرقًا في مشاهدة أفعال الخالق التي لا تعوزها الأسباب، فذكر لهم أنه لا يرى ضرورة لهذا التأبير، إذ قال:

لو لم تفعلوا لصلحت

، وظن أهل النخل أن هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم تعليم ديني واجب الاتباع، فتركوا التأبير، فلم تنضج ثمار النخل إذ فقدت لقاحها، فعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم:

أنتم أعلم بأمور دنياكم.

ورجع بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عن رأيه؛ لأنه كان من عنده، ولم يكن تعليمًا تشريعيًّا، ولا علمًا ربانيًّا أوحى الله به إليه.

ولعل الله أجرى لرسوله مثل هذا لئلا يستكبر مسلم مؤمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجوع إلى الحق متى ظهر له، فهذا أكمل البشر معرفة وأرفعهم مكانة وذكرًا قد يخطئ في بعض أمور الدنيا، ثم يرجع إلى الصواب متى ظهر له، ويعلن رجوعه إليه، دون أن يجد في نفسه غضاضة من ذلك. وهذا أسلوب رائع من أساليب التربية الربانية للمؤمنين، إذ وضع الله أمامهم القدوة الحسنة التي تقدم لهم الفضائل في صيغة عملية تحمل أفضل صورة تطبيقية للحكم والنصائح والوصايا القولية.

ومن التربية الإسلامية على الرجوع إلى الحق، ما جاء في النصوص الدينية من توجيه من حلف على شيء ثم رأى غيره خيرًا منه، أن يكفّر عن يمينه ويأتي الذي هو خير.

روى مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

من حلف على يمين فرأى خيرًا منها، فليكفر عن يمينه وليفعل.

وروى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن سمرة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له:

وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفّر عن يمينك وأتِ الذي هو خير.

ففي هذا إرشاد عظيم إلى الرجوع إلى الأفضل الأحسن، ولو نتج عنه إلغاء قسم وثق به الأمر الذي يحسن الرجوع عنه إلى غيره، فكيف بالرجوع عن الباطل إلى الحق؟

وقد يدعو الأمر إلى مقاتلة الجانحين عن الحق لإرجاعهم إليه، ولو كانوا مسلمين، ومن ذلك قتال الطائفة الباغية بين طائفتين من المسلمين، حتى ترجع إلى أمر الله، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة (الحجرات 49):

(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)) .

(تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ) : أي ترجع إلى أمر الله، وأمر الله هو الحق.

فهذا النص القرآني يأمر جماعة المؤمنين بمقاتلة الفئة الباغية حتى ترجع إلى الحق، وهي تربية قسرية على الرجوع إلى الحق، متى كان التمادي في الباطل بغيًا وظلمًا.