موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرجوع إلى الحق(تمهيد)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الرجوع إلى الحق(تمهيد)
236 0

الوصف

                                                               الرجوع إلى الحق

                                                                    تمهيد
                                 الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 7- الرجوع إلى الحق >>

7- الرجوع إلى الحق

الرجوع إلى الحق بعد معرفته واستبانة أمره من الظواهر السلوكية لخلق حب الحق وإيثاره.

والرجوع إلى الحق فضيلة من الفضائل التي دعا إليها الإسلام، وحث على الالتزام بها، وعمل على تربية المسلمين عليها، لذلك فهو من الفضائل التي يتحلى بها المؤمنون.

وضد خلق الرجوع إلى الحق خلق الإصرار على الباطل، رغم انجلاء الغموض، ووضوح وجه الحق، وهذا لا يكون إلا من انحراف خلقي شائن، مدفوع بعوامل نفسية شتى، يدخل فيها الكبر، والاستعلاء، وحب الغلبة ولو بالباطل، وخوف الظهور بمظهر ارتكاب الخطأ، والاعتزاز الآثم، والاستكبار عن قبول الحق الآتي من قبل الأشخاص الآخرين، والأنانية المفرطة التي تحب الاستئثار بكل مجد.

والرجوع إلى الحق فضيلة خلقية راقية توجد عند أصحاب الفطر العالية من الناس؛ لأنهم بفطرهم العالية لا يجدون في نفوسهم ما يصرفهم عن الاستجابة للحق والرجوع إليه، فلا أنانية تصرفهم، ولا عصبية تصدهم، ولا عزة آثمة تحجبهم عن رؤية الحق، وأما الأهواء والنوازع النفسية فإنهم يستطيعون أن يجدوا سبيلًا إلى مداراتها في ظل الاعتراف بالحق والرجوع إليه.

فالذين بادروا فاستجابوا لدعوة الحق التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهجروا ما كانوا عليه من باطل، قد كانوا أصحاب فطر عالية؛ لأنهم استطاعوا أن يطرحوا عصبياتهم جانبًا، وينبذوا أنانياتهم الخاصة، ويستهينوا بمصالحهم مع قومهم، ويتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين رأوا أن دعوته هي دعوة الحق، وأن ما كانوا عليه في جاهليتهم باطل.

فمن أمثلة هؤلاء أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، لقد كان وجيهًا في قومه، وذا مكانة، ولما رأى دعوة محمد صلى الله عليه وسلم هي الحق بادر إلى الأخذ بها، وطرح كل المعتقدات التقليدية التي عليها قومه والتي كان منتسبًا إليها بحكم انتسابه إلى قومه، وكان المفروض أن يتعصب إليها كما تعصب إليها معظم قومه، إلا أن فطرته العالية جعلته يستهين بالعوامل العصبية التي تسيطر على النفوس، وجعلته يرجع إلى الحق ولو كانت الطريق التي سيسلكها طريقًا ليس فيها غيره وغير من هداه السبيل، ولو كانت الجماهير البشرية تتدافع في طريق أخرى، وجعلته أيضًا يستهين بمصالحه الخاصة مع قومه؛ لأنه لا يستطيع أن يقبل الباطل ويسير في ركابه، مهما كانت مصالحه الدنيوية ومنافعه المادية مرتبطة به، فالحق عند أصحاب الفطر العالية أحق أن يتبع، ولو كان في اتباعه تحمل صنوف من الأذى على أيدي المبطلين.

وهذا ما جعل أبا بكر رضي الله عنه نموذجًا مثاليًّا لاتباع الحق والرجوع إليه، في كل أدوار حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك حينما تسلم خلافة المسلمين بعده.

ومن أمثلة هؤلاء أيضًا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لقد كان من أصحاب الفطر العالية، رجاعًا إلى الحق وقافًا عنده، وقد كان يستطيع أن يدوس نفسه وعزتها وكبرياءها بقدميه، ويستطيع أن يعلن ذلك على رؤوس الأشهاد متى ظهر له أن الحق في غير الأمر الذي كان يقول أو يأمر به، وكان في ذلك نموذجًا فريدًا.

وقصة إسلامه تدل على فطرته العالية في حبه للحق ووقوفه عنده، ورجوعه إليه، وفيما يلي حكاية لها، مما قصه عمر عن نفسه:

أخرج البزار والبيهقي والطبراني وأبو نعيم في الحلية، عن عمر بن الخطاب قال: كنت من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا في يوم حار شديد الحر بالهاجرة في بعض طرق مكة، إذ لقيني رجل من قريش، فقال لي: أين تريد يا ابن الخطاب؟ فقلت: أريد إلهي وإلهي وإلهي (أي: أريد التوجه إلى آلهتي من الأوثان) قال: عجبًا لك يا ابن الخطاب، إنك تزعم أنك كذلك وقد دخل عليك الأمر في بيتك.

قال: فقلت: وما ذاك؟ قال: أختك قد أسلمت.

قال: فرجعت مغضبًا حتى قرعت الباب –وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أسلم الرجل والرجلان ممن لا شيء له ضمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرجل الذي في يده السعة، فينالا من فضل طعامه، وقد كان ضم إلى زوج أختي رجلين- فلما قرعت الباب قيل: من هذا؟ قلت: عمر، فتبادروا فاختفوا مني، وقد كانوا يقرؤون في صحيفة بين أيديهم تركوها أو نسوها، فقامت أختي تفتح الباب، فقلت: يا عدوة نفسها صبوت؟ وضربتها بشيء في يدي على رأسها، فسال الدم، فلما رأت الدم بكت، فقالت: يا ابن الخطاب ما كنت فاعلًا فافعله فقد صبوت.

قال: ودخلت حتى جلست على السرير، فنظرت إلى الصحيفة وسط البيت، فقلت: ما هذا؟ ناولينيها، فقالت: لست من أهلها، أنت لا تطهر من الجنابة، وهذا كتاب لا يمسه إلا المطهرون، فما زلت بها حتى ناولتنيها، ففتحتها فإذا فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم" فلما مررت باسم من أسماء الله تعالى ذعرت، فألقيت الصحيفة، ثم رجعت إلى نفسي فتناولتها، فإذا فيها:

(سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) .


فلما مررت باسم من أسماء الله تعالى ذعرت، ثم رجعت إلى نفسي، فقرأتها، حتى بلغت (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) إلى آخر الآية،  الآيات هي أوائل سورة الحديد إلى آخر الآية السابعة: (سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الأوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7))   فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

قال عمر: فخرجوا إلي متبادرين وكبروا وقالوا: أبشر يا ابن الخطاب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يوم الإثنين فقال: اللهم أعز دينك بأحب الرجلين إليك، إما أبو جهل بن هشام، وإما عمر بن الخطاب، وإنا نرجو أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لك.  انظر الخصائص الكبرى للسيوطي.  

ومن روائع رجوع عمر بن الخطاب إلى الحق ما جاء في أخباره أنه رأى ذات يوم وهو خليفة للمسلمين، أن يصدر أمرًا بتحديد المهور ليمنع المغالاة فيها، ويسهل أمر الزواج، ويخفف من أعباء تأسيس الأسرة، حتى يقبل الشباب على الزواج، وتنحل بذلك مشكلات اجتماعية، ناجمة عن عضل البنات بسبب اشتراط المهور الغالية، فخطب في المسلمين ووجه للناس أمرًا بما رآه، وكان له فيه وجه من الاجتهاد سديد، فقامت امرأة فقالت له: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله تعالى يقول: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) فقال عمر: امرأة خاصمت عمر فخصمته. وفي رواية بلفظ: امرأة أصابت ورجل أخطأ.

ولولا أن ابن الخطاب رجاع بفطرته إلى الحق الذي ينكشف له، لوجد تخريجات فقهية تبرر ما كان قد ذهب إليه، ولكنه لم يفعل ولم يستكبر عن إعلان رجوعه إلى ما ظهر له من حق، ولم يجد في إعلانه خطأه على رؤوس الأشهاد أي حرج أو ضيق في نفسه.  من عجيب مفاهيم التقدمية الحديثة أنها تجعل الرجوع إلى الحق والفضيلة رجعية مذمومة، مع أن الرجوع إلى الحق من أنفس الفضائل التي يتمتع بها الإنسان العاقل المتحضر، الذي يعشق المجد، ويسعى في الارتقاء إلى الكمالات.  

وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بأن الله جعل الحق على لسانه وقلبه، وبأن الشيطان ما لقيه سالكًا طريقًا إلا سلك طريقًا غير طريقه.

روى الترمذي عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه.

وروى أبو داود عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به.

وروى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر:

إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا قط إلا سلك فجًا غير فجك.

ومن أمثلة الرجاعين إلى الحق أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، ومن قصص رجوعه إلى الحق ما روي أنه تغاضب ذات يوم مع بلال الحبشي مولى أبي بكر، وتطور النزاع بينهما، إلى أن أخذت الحدة أبا ذر، فقال لبلال: يا ابن السوداء، فشكاه بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر:

طف الكيل، أتعيره بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية

، قال أبو ذر: على ساعتي هذه من كبر السن؟  لعل أبا ذر ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد بالجاهلية ما يعتري الشباب من طيش يخرجهم عن حد الاعتدال، فقال ما قال.   فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:

نعم هم إخوانكم.

أي: والأخوة تستلزم التحقق بمعنى إلغاء الفوارق العرقية واللونية ونحوها من الأمور.

فندم أبو ذر لما كان منه، ورجع إلى الحق، وأعلن توبته، حتى إنه أمر بلالًا أن يطأه على وجهه استرضاء له مما عيره به من سواد أمه.