موسوعةالأخلاق الإسلامية-الأمانة(خلق الأمانة فطري ومكتسب)
الوصف
الأمانة
خلق الأمانة فطري ومكتسب
الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 6- الأمانة >>
خلق الأمانة فطري ومكتسب:
لدى البحث نلاحظ أن الأمانة ذات جذور أصلية في فطرة الإنسان، وذلك لأن الأمانة مرتبطة بالحق كما عرفنا، والأصل في فطرة الإنسان إقراره بالحق، وكراهيته العدوان على حقوق الآخرين، والأمانة فرع عن هذا الأصل.
ثم تأتي التربية الخلقية القويمة التي ينشأ عليها الإنسان فتدعم أصل فطرته، حتى تصبح الأمانة لديه خلقًا بارزًا قويًّا فعالًا، بعد أن كانت ميلًا فطريًّا لا يزيد على أنه يعطي ترجيحًا يسيرًا، كما قد تأتي التربية المفسدة فتحول هذه الفطرة عن أصولها، وتغذي الإنسان بخلق آخر مناف لخلق الأمانة.
فالأمانة في الأصل تمثل ميلًا فطريًّا في الإنسان قابلًا للتنمية، حتى يكون خلقًا قويًّا فعالًا راسخًا في النفس، مؤثرًا في السلوك، وذلك بالتربية والتدريب، فهي فطرية في بزورها، مكتسبة فيما وراء ذلك.
هذا ما تكشفه الملاحظة، ثم إن النصوص الإسلامية تدل عليها، فمنها نصوص عامة، ومنها نصوص خاصة بخلق الأمانة.
* أما النصوص العامة فمنها ما يلي:
(أ) قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
كل مولود يولد على الفطرة
أي: على الإيمان ومستلزمات الإيمان، ولما كان الإيمان التزامًا بالحق، وكانت الأمانة فرعًا من فروع حب الحق وإيثاره، كان الأصل في فطرة الإنسان ميله إلى الأمانة.
(ب) ما جاء في الحديث القدسي أن الله تعالى قال:
إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين
أي: إن الأصل في فطرتهم أنهم حنفاء ميالون إلى الحق والاعتراف به، والعمل بما يستلزمه، ولكن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك، أي: استهوتهم واستخفتهم، فحولتهم عن أصل فطرتهم المائلة إلى الحق والخير، فجالوا مع الشياطين في أودية الهوى والشر.
(ج) قول الله تعالى في سورة (الروم 30):
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (30)) .
فهذه الآية تدل على أن الأصل في الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي الميل نحو الدين القيم، والدين القيم يشمل جوانب الإيمان، ومستلزمات الإيمان من أخلاق وأنواع سلوك.
* وأما النصوص الخاصة فمنها ما يلي:
روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا
إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة
. ثم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة فقال:
ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرًا وليس فيه شيء
ثم أخذ الرسول صلى الله صلى الله عليه و سلم حصى، فدحرجه على رجله، ثم قال:
فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال
يشعر بأنها خلق من الأخلاق الفطرية في الإنسان، فهي في جذر قلوب الرجال، ولا تكون بهذا العمق في كيان الإنسان ما لم تكن ذات جذور فطرية، كما أن التعبير بكلمة (نزلت) يشعر بأنها أمر فطري من عند خالق القلوب.
ويؤيد هذا قول الرسول بعد ذلك:
ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة
ففي هذا القول دلالة على أن الإرشاد القرآني إلى الأمانة والإرشاد النبوي إليها، قد جاءا بعد تغلغل الأمانة في جذر قلوب الرجال، ولا يكون هذا السبق إلا سبقًا فطريًّا.
أما ما حدث به الرسول عن رفع الأمانة، فقد دل على ارتباط الأمانة بالإيمان، وإن هذا الرفع إنما يأتي بسبب ضعف الإيمان في الناس أو فقده، وسبب ذلك أن من فقد الإيمان الذي هو أكبر حق في الوجود، فلا بد أن تنهار الأمانة من قلبه، وهي رعاية لحقوق تأتي في الرتبة دون الإيمان، وهما في الأساس يعتمدان على حب الحق وإيثاره.
وقول الرسول:
ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت
يصور بقايا الخلق في القلوب عند حالات التغير المفاجئ، بتأثير التيارات الاجتماعية، والضلالات الفكرية، والانحرافات السلوكية، إذ تبقى رواسب الأخلاق بقايا يسيرة قليلة الشأن غير فعالة في توجيه السلوك.
والوكت: هو الأثر اليسير للشيء، أو الأثر اليسير في الشيء، والوكتة في العين: نقطة حمراء في بياضها، أو نقطة بيضاء في سوادها.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيء
يصور مرحلة من مراحل الانهيار الخلقي، وذلك بأن تصبح الأمانة اسمًا لا مسمى له في القلوب، ولا أثر له في السلوك، ويصبح الحديث عنها كلامًا فقط، ليس له حقيقة في الواقع، فإذا نظرت إلى مظهر الكلام عنها والدعاوى حولها وجدتها منتفخة كبيرة، ثم إذا غمزتها في واقع تطبيقي عملي وجدتها فارغة خواء، كالنفطات التي تنتبر على الجلد من الحروق، وهذه النفطات تسمى مجلًا.
وهذا التصوير النبوي فيه من الإبداع البلاغي مقدار عظيم، ويكاد يصور الواقع تمامًا.