موسوعةالأخلاق الإسلامية-النفاق(موقف المؤمنين من المنافقين)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-النفاق(موقف المؤمنين من المنافقين)
203 0

الوصف

                                                                 النفاق

                                                  موقف المؤمنين من المنافقين
                      الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 4- النفاق >>

موقف المؤمنين من المنافقين:

لجأ الرسول صلوات الله عليه إلى سياسة معاملة المنافقين بحسب ظاهرهم فلم يحاكم أحدًا منهم بحسب باطنه، وهذا هو واجب الحكم والقضاء الشرعي.

ولجأ الرسول أيضًا إلى سياسة العفو عما يبدو منهم مما يدل على نفاقهم، ما داموا يستخفون بعداوتهم لله ورسوله والمؤمنين، ويقدمون اعتذارهم عما يبدو منهم، أو يحلفون الأيمان الكاذبة على إنكار ما نسب إليهم، أو على سلامة نيتهم، وآثر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلجأ إلى هذه السياسة لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه ومن أسلم معه، فيكون ذلك سببًا في نفرتهم عن الدخول في الإسلام، وهم ما زالوا بالنسبة إلى هذا الدين بين الشك واليقين.

ولكن لما تصاعدت أعمال المنافقين الدالة على نفاقهم، إذ طالت عليهم مدة الإنظار، وإذ أخذ اليأس من تقهقر الإسلام يدب على قلوبهم، وإذ رأوا بوادر الانطلاق إلى دق أبواب الإمبراطورية الرومانية، عندئذ أخذت الحملة الإعلامية القرآنية تتكثف ضدهم بقدر تصاعد ظواهر نفاقهم.

فلدى تتبع الحملة القرآنية العنيفة ضد الذين تخلفوا من المنافقين، فلم يخرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، نلاحظ أنها بمثابة مقدمات لإعلان الحرب المسلحة ضدهم، وبمثابة التمهيد لتغيير سياسة التغاضي عنهم وعن أعمالهم. فالمسلمون قد غدوا قوة مؤهلة لحمل الإسلام إلى شعوب الأرض، وكسر أسوار الإمبراطوريات الكبرى، والوقت لم يعد وقت مداراة المنافقين المعوقين من داخل الصفوف، وقد آن أوان محاسبتهم على نفاقهم، ومجاهدتهم مثل جهاد الكافرين المجاهرين بكفرهم.

ولئن كانت المدة الأولى تقتضي غض النظر عنهم، ريثما يقوى المسلمون وتشتد شوكتهم، ورجاء أن يستقيم بعضهم ويتوب من نفاقه، فإن المسلمين بعد أن أصبحت لهم قوة تفكر بغزو الروم صاروا بغنى عن مداراة منافقيهم، وغدت المصلحة الإسلامية تقضي بالمحاسبة الشديدة على كل مظاهر النفاق، وتمييز المنافقين عن المسلمين، ومحاربتهم ومجاهدتهم كالكافرين الصرحاء.

أما وقد صعد المنافقون أعمالهم العدائية للإسلام والمسلمين فإن الحكمة اقتضت إنذارهم أولًا بأنهم إن لم ينتهوا فسيتم إعلان الحرب ضدهم وإغراء الرسول بقتالهم، وكان ذلك عقب غزوة الأحزاب. ثم لما لم يردعهم الإنذار بالوعيد، فإن الحكمة اقتضت تنجيز إعلان الحرب عليهم، وأمر الرسول بمجاهدتهم، وكان ذلك عقب تخلف من تخلف منهم عن غزوة تبوك، والأعمال التي كانت منهم في تلك الآونة.

أما الإنذار بأنهم إن لم ينتهوا فسيتم إعلان الحرب ضدهم وإغراء الرسول بقتالهم فإننا نجده في قول الله تعالى في سورة (الأحزاب 33):

(لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (62)) .

فخاطب الله رسوله في هذا النص، بأنه إن لم ينته المنافقون عن أعمالهم الدالة على نفاقهم، والتي تعبر في سلوكهم عن كفرهم الكمين في قلوبهم، لنغرينك بهم، أي: لنحرضنك على مقاتلتهم ومطاردتهم وإجلائهم، وذلك على سبيل إغرائك بالانتقام منهم، على ما كان منهم من إيذاءٍ لك ومخالفة، ومناهضة مقنعة للإسلام والمسلمين.

(ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً) : أي ثم لا يجاورونك في المدينة إلا قليلًا، وهذا بمثابة نتيجة طبيعية للتحريض على مقاتلتهم، ونبذهم من صفوف المجتمع الإسلامي الذي ينافقون له.

وقد أكد الله معنى طردهم من صفوف المسلمين بإعلان طردهم من رحمته سبحانه وتعالى، فقال تعالى: (مَلْعُونِينَ) .

ثم قال تعالى: (أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) أي: حينما يغري الله رسوله والمؤمنين بمقاتلتهم، فيعاملهم معاملة الأعداء الذين يجاهرون بعداوتهم، فسيكون الانتقام منهم أقسى وأشد نكاية من الكافرين الصرحاء، فأينما وجدوا أخذوا وقتلوا تقتيلًا عنيفًا، فلا يقبل منهم بعدئذ توبة؛ لأنهم قد امتحنوا فأظهروا أنهم كذابون، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.

وختم الله هذا الإنذار بقوله: (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) للدلالة على أن من سنن الله الحكيمة التي لا تبديل لها، أنه متى بلغ المنافقون من أية أمة من الأمم مبلغًا من الكيد للرسالة الربانية، صار فيه بقاؤهم بين صفوف المؤمنين خطرًا على سير الدعوة وانتشارها، أو معوقًا ظاهرًا لتقدمها، فإن الله ينزل أمره لرسله بمقاتلتهم، وبمطاردتهم حتى القضاء عليهم واستئصال شأفتهم، وذلك لأن خطرهم حينئذٍ يكون أشد من خطر الكافرين المجاهرين بعداوتهم. ولكن، ما دام نفاقهم لم يصل إلى هذه الدرجة من الخطورة فإن من سنة الله تبارك وتعالى أن لا يأذن لرسله بمقاتلتهم مقاتلة جماعية تستأصلهم، حتى لا يأخذ الناس بعضهم بعضًا بالظنة.

وأما تنجيز إعلان الحرب عليهم وأمر الرسول بمجاهدتهم عقب تخلف من تخلف منهم عن غزوة تبوك، والأعمال التي كانت منهم في تلك الآونة، فنجده في قول الله تعالى في سورة (التوبة 9):

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)) .

فدعا الله رسوله في هذه الآية إلى مجاهدة الكفار والمنافقين والإغلاظ عليهم، فدل هذا على أن المنافقين قد وصلوا إلى حالة انكشف فيها نفاقهم تمامًا، بتصاعد الأعمال الدالة عليه منهم، فكان ذلك مقتضيًا أن يعاملوا معاملة الكافرين الصرحاء.

ولو أنهم لم يكشفوا صفحتهم بما يدل على كفرهم من أعمال، لما دعا الله رسوله إلى مجاهدتهم والإغلاظ عليهم؛ لأن أحكام شريعته المستمرة تقضي بأن لا تحاسب القيادة الإسلامية الناس على ما في قلوبهم، حتى يظهر في أعمالهم ما يدل عليها دلالة واضحة، وأمر المحاسبة على ما في القلوب متروك لله جل وعلا.

يضاف إلى ذلك ما ذكرناه آنفًا من أن المسلمين قد وصلوا إلى مرحلة يستطيعون فيها الاستغناء عن مداراة المنافقين، ولا يؤثر على دعوتهم فيها أن يحاسبوا المنافقين حسابًا عسيرًا. كما أن المنافقين قد صعدوا أعمالهم العدائية للإسلام والمسلمين، إذ بدأوا يشعرون بأن سندهم قد تقوض نهائيًّا داخل الحدود العربية، ولم يبق لهم إلا أمل واحد، وهو أن يأتيهم الدعم من وراء الحدود، وبدأ بعضهم يطمع بدعم الإمبراطورية الرومانية، أو أجرائها من العرب الغسانيين، ليخلصوهم من هذه القوة الكبيرة التي أصبحت للمسلمين، ولكن الذي أطار صوابهم أن يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قتال هذه القوة التي يترقبون أن تكون هي السند لهم.

وقد أخذ التمهيد للدعوة إلى مجاهدة المنافقين يبرز في شن الحملة الإعلامية ضدهم، بذكر مواقفهم، وفضح أعمالهم التي كانوا يتوارون بها.

وأتبع الله دعوة الرسول إلى مجاهدتهم ببيان الأسباب الداعية إلى ذلك، فذكر طائفة من أعمالهم الكاشفة لنفاقهم وكفرهم، في تسع آيات من سورة (التوبة) عقب الآية السابقة.

ثم كلف الله رسوله أن يباشر تنفيذ خطتي عزلٍ للمنافقين عقب عودته إلى المدينة من غزوة تبوك سالمًا:

* الخطة الأولى:
عزل من تخلف منهم عن الغزوة عزلًا عسكريًّا وطردهم من مكان الاعتبار بين صفوف المسلمين، وذلك بمنعهم عن الخروج إلى القتال مع الرسول صلى الله عليه وسلم وبشطب أسمائهم من ديوان المجاهدين.

* الخطة الثانية:
عزل موتاهم من سجل موتى المسلمين، وذلك بأن لا يصلي الرسول صلى الله عليه وسلم على أحد منهم مات أبدًا، وبأن لا يقوم على قبره للدعاء له، فالاستغفار لهم لا يفيدهم.

أما العزل العسكري فقد أمر الله رسوله به في قوله في سورة (التوبة 9):

(فَإِن رَّجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)) .

ففي هذا إعلان عزلهم عن المشاركة في أي قتال يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذا العزل إبعاد لهم عن بعض مواقع المسلمين، وفيه تمهيد لتمييزهم بالمراقبة، ثم لتوجيه الضربة القاصمة لظهورهم متى لزم الأمر.

وأما عزل موتاهم من سجل موتى المسلمين، الذي هو أشد قسوة على المنافقين من العزل العسكري، وأبلغ في طردهم من صفوف المؤمنين، فقد أمر الله رسوله به في قوله له في سورة (التوبة 9):

(وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)) .

وظاهر في هذا الإعلان طردهم النهائي من صفوف المسلمين، بعد الذي كان منهم.

وهكذا تم عزل المتخلفين عن الجهاد من المنافقين عزلًا عسكريًّا، وتم شطب أسمائهم من ديوان المجاهدين، ثم أتبع ذلك بإعلان عزل موتاهم من سجل موتى المسلمين، بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن أن يصلي على أحد منهم مات أبدًا، أو أن يقوم على قبره للدفن أو الدعاء، والسبب في ذلك أنهم كفروا بالله ورسوله، وماتوا وهم فاسقون.

ثم قنط الله رسوله من رجاء إصلاحهم بعد أن مردوا على النفاق، فقال في الآية التالية من سورة (التوبة 9):

(وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُّعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)) .

وذلك أنه ربما يقوم في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أملٌ بأن يصلح هؤلاء المنافقون، رغم التجارب العديدة التي اكتوى بها منهم، وبذلك تت