موسوعةالأخلاق الإسلامية-النفاق(من مواقف المنافقين)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-النفاق(من مواقف المنافقين)
306 0

الوصف

                                                                 النفاق

                                                         من مواقف المنافقين
                            الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 4- النفاق >>

12- ومن صفاتهم أنهم لا بد أن تصدر عنهم تصرفات قولية أو عملية تدل على نفاقهم، وأنهم في قلوبهم منكرون كافرون، وفيما يلي عرض لطائفة من مواقفهم:

(أ) ففي غزوة أحد انخذلوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستكملوا مسيرتهم، فدل ذلك على نفاقهم، وكان من عادة زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول قبل هذه الغزوة إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام عبد الله بن أبي فقال: أيها الناس هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس!!

فلما كان منه ما كان من خذل فعلي للرسول في أحد، وجاء يوم الجمعة، قام عبد الله بن أبي يفعل مثلما كان يفعل، فأسكته المسلمون وأخذوا بثيابه من نواحيه، وقالوا له: اجلس أي عدو الله، لست لذلك بأهل، فخرج مقهورًا ذليلًا يتخطى رقاب الناس، فلقيه رجل من الأنصار بباب المسجد، فقال له: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي، فأنزل الله قوله في سورة (المنافقون 63):

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَّغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)) .

إنه إذا غفر لهم فقد قرر بغفرانه أنهم من أهل الهداية، لكنهم في واقع أمرهم من أهل الضلالة والفسق، والله لا يهدي القوم الفاسقين، فلا يحكم لهم بالهداية وهم في قلوبهم وإراداتهم الجازمة كافرون فاسقون، ولا يقضي لهم في حكمه العادل بأنهم مهديون، فلا يجعلهم في زمرة الذين اهتدوا.


(ب) وفي غزوة بني المصطلق جرى شجار بين أجير لعمر بن الخطاب، وهو من بني غفار، وبين سنان بن وبر الجهني، وهو حليف الخزرج، فاستغل عبد الله بن أبي بن سلول هذا الشجار وهو خزرجي، وكان عنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم وهو غلامٌ حدث السن، فقال ابن أبي: أو قد فعلوها؟ قد نافرونا  نافرونا: فاخرونا وغالبونا في نفرهم.   وكاثرونا في بلادنا والله ما أعدنا وجلابيب  جلابيب قريش: لقب أطلقه المشركون على المهاجرين من مكة إلى المدينة، كأنهم شبهوهم بذوات الجلابيب.   قريش إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، فأنزل الله قوله في سورة (المنافقون 63):

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (8)) .

وهذه هي خطة المنافقين في كل زمان ومكان، يعمدون إلى محاربة المسلمين الصادقين في أرزاقهم، ليتفرقوا عن زعمائهم المخلصين في الدعوة إلى الله.

وعلم الرسول بما قال زعيم المنافقين ابن أبي، إذ أخبره زيد بن أرقم بما سمع منه، وكان عند الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، مر به عباد بن بشرٍ فليقتله، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:

فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، لا ولكن أذن بالرحيل

وكان ذلك في ساعة لم يكن الرسول يرتحل فيها، فارتحل الناس. ولما ركب الرسول مرتحلًا لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه، ثم قال: يا نبي الله والله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أو ما بلغك ما قال صاحبكم

؟! قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال:

عبد الله بن أبي

؛ قال أسيد بن حضير: وماذا قال؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:

زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل

قال أسيد: فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز. وعلم ابن أبي أن الرسول بلغه ما قال بين جماعته، فجاء إلى الرسول فحلف له بالله أنه ما قال الكلام الذي بلغه عنه، وهي عادة المنافقين في ستر جرائمهم بحلف الأيمان الكاذبة الفاجرة، ليتقوا بها عقوبة ما يرتكبون.

ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عبد الله بن أبي، وكان هذا الولد مؤمنًا صادقًا، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لا بد فاعلًا فمرني به، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس، فأقتله، فأقتل رجلًا مؤمنًا بكافر، فأدخل النار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.

(ج) وفي غزوة بدر الكبرى توقع المنافقون أن تحل بالمؤمنين الذين خرجوا مع الرسول هزيمة منكرة، لقلة عددهم وعدتهم، فجعلوا يقولون: غر هؤلاء دينهم، ولكن الله أيد المؤمنين بنصره المبين، فأثبت للمنافقين أن المؤمنين الصادقين لم يغرهم دينهم، بل نصح لهم، وأخذ بأيديهم إلى صراط الهداية والسعادة والمجد العظيم، وأثبت لهم أن أهل النفاق هم الذين غرتهم أهواؤهم وشهواتهم ومصالحهم الدنيوية العاجلة، وغرتهم وساوس شياطينهم.

وفي بيان هذه المقالة التي أطلقها المنافقون قال الله تعالى في سورة (الأنفال 8):

(إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)) .

(د) هذا الموقف المتواري من مواقف النفاق يدل على أن طبيعة النفاق من شأنها أن تدفع المنافقين إلى اتخاذ موقف من مواقف الكفر، مهما حاولوا كتم ما في نفوسهم وإخفاءه بما يتظاهرون به من إسلام، لا سيما حينما يمتحن إسلامهم في ميدان الجهاد بالنفس أو بالمال في سبيل الله.

وقد كشف الله هذه الصفة من صفات المنافقين، وأوضح أن لهم علامات تميزهم، في تصرفاتهم، وفي ملامح وجوههم عند سماع شيء يكرهونه من أمور الدين، وفي لحن أقوالهم التي تنفلت من ألسنتهم دون أن يستطيعوا ضبطها وحجزها، وذلك لشدة ضغط ما ينفعل في قلوبهم ونفوسهم، مما يحاولون إخفاءه خشية انكشاف أمرهم. إنه لما نزلت آيات محكمات دعي فيها المسلمون إلى القتال في سبيل الله، تألم منها المنافقون، وكرهوها، وصعب عليهم أن يجاهروا برفضها؛ لأن ذلك يكشف نفاقهم، فانفعلت نفوسهم انفعالات كراهية ظهرت في وجوههم وفي نظراتهم، وهذا ما أوضحه الله بقوله في سورة (محمد 47):

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)) .

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أي: لولا أنزلت سورة نؤمر فيها بالقتال. (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) أي: المنافقين. (فَأَوْلَى لَهُمْ )أي: فويل لهم، وهلاك لهم.

إن هذا اللون من الاختبار يصلح لأن يكون من روائع الاختبارات النفسية، الكاشفة لما تنطوي عليه القلوب والنفوس، فهو يعتمد على إلقاء المثير القوي، وملاحظة أثر ذلك في تعبيرات الوجه وتلوناته، وفي نظرات الأعين. فهؤلاء المنافقون حين أمروا بالقتال أمرًا ربانيًّا في آيات محكمات ولم يستطيعوا مناقشة هذا الأمر؛ لأنه منزل من عند الله، بدا أثر كراهيتهم ذلك على وجوههم، فجعلوا ينظرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نظر المغشي عليه من الموت، وفي هذا تصوير بديع لحالة زوغان البصر وكلاحة الوجه وصفرته، التي تنتابهم حين امتحانهم بأوامر القتال الجازمة.

وكثيرًا ما لا يقتصر الأمر على حدود انفعالات تظهر أماراتها على الوجوه وفي نظرات الأعين، بل تتعدى ذلك إلى أقوال تحمل أمارات أقوى، وتصرفات عملية تحمل دلالات أبين وأوضح، وقد أوضح الله ذلك بقوله في سورة (محمد 47):

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)) .

فبعد أن عرضت سورة محمد –المسماة أيضًا بسورة القتال- ما لدى المنافقين من مفارقات بين الأقوال والأعمال، وبعد أن ذكرت طائفة من شؤونهم ووعظتهم وقرعتهم وهددتهم، أنذرتهم بأن يفضح الله نفاقهم، فيخرج أضغان قلوبهم، ويدل عليهم بعلاماتهم؛ فقال الله تعالى لرسوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ .... ).

أما معرفتهم في لحن القول فهي المعرفة التي تتصيد مما يظهر من فلتات أقوالهم، ومن بعض الكلام الذي ينطلق من ألسنتهم دون إرادة واعية منهم، وإنما ينطلق بسبب الضغط النفسي الذي يعانونه، من مخالفة ظواهرهم لبواطنهم.

وهكذا كل ذي شخصية مزدوجة يحاول أن يتصنع لإحداهما بظواهر الأعمال، ويحاول أن يرضي الأخرى بخفايا الأعمال، لا بد أن تضغط عليه شخصيته الحقيقية، فتبرز في أعماله الظاهرة ما يدل عليها، مما يرضيها، مهما حاول ضبط نفسه، وكتمان مشاعره.

فما في داخل الشعور لا بد أن يظهر له أثر على ظاهر الشعور ولا بد أن يظهر له أثر في واقع السلوك، وهذه الظواهر تدل عليه