موسوعةالأخلاق الإسلامية-النفاق(صفات المنافقين والظواهر السلوكية لخلق النفاق)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-النفاق(صفات المنافقين والظواهر السلوكية لخلق النفاق)
205 0

الوصف

                                                                النفاق

                                              صفات المنافقين والظواهر السلوكية لخلق النفاق
                   الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 4- النفاق >>

صفات المنافقين والظواهر السلوكية لخلق النفاق:

لكل خلق أو مجموعة أخلاق ظواهر في السلوك تدل عليه، مهما حاول صاحب الخلق إخفاء أمره، ومن أسر سريرة ألبسه الله منها رداء يكشف عنها ويدل عليها. وتكون الظواهر السلوكية مناسبة لقوة دوافع الخلق أو مجموعة الأخلاق.

وكما أن المعادن والعناصر والمركبات المادية والثمرات لها ظواهر تكشف عن حقيقتها –وهذه الظواهر لا تتخلف، وتكون بمقدار نسبة العناصر أو المعادن أو المواد الجوهرية الداخلة فيها- فكذلك الأخلاق النفسية، والدوافع الداخلية لا بد أن يكون في الظواهر السلوكية ما يدل عليها، باعتبار أن الإنسان في داخله وفي خارجه وحدة متشابكة، يؤثر بعضها ببعض ويتأثر بعضها ببعض.

وتكاد تكون سنن الأشياء وطبائعها وسنن الأحياء وطبائعها متشابهة في قوانينها الكلية.

ولذلك شبه القرآن بعض أنواع من السلوك البشري ببعض أنواع من سلوك الأشياء في الطبيعة.

وقد أفاض القرآن الكريم في بيان صفات المنافقين والظواهر السلوكية لخلق النفاق في مواطن شتى، حتى عرّى المنافقين من كل أغشية الخداع التي يحاولون بها ستر أكاذيبهم وإخفاء نفاقهم.

ففي أوائل سورة (البقرة 2) جاء الكلام عن صفات المنافقين في ثلاث عشرة آية، بينما جاء الكلام عن صفات المؤمنين في ثلاث آيات، وعن الكافرين الصرحاء في آيتين، وهذا يدل على خطر النفاق والمنافقين البالغ على الدعوة الربانية، وعلى جماعة المسلمين، ولدى التأمل النظري والتجربة الواقعية يتبين أن المنافقين أشد خطرًا ونكاية من الكافرين الصرحاء؛ لأنهم يكيدون ويمكرون وهم مخالطون مداخلون مأمون جانبهم.

وفي هذا النص المشار إليه من سورة (البقرة) جاء تعريفهم وبيان طائفة من صفاتهم وظواهرهم السلوكية:

1- إنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فيقولون آمنا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين، إذ قلوبهم منكرة جاحدة، فهم يكذبون عن تعمد وإصرار، وليس كذبهم هذا في أمور صغيرة أو عادية، ولكنه كذب في الدين، كذب في العقيدة وفي إعلان منهج الحياة. وفي بيان هذه الظاهرة من ظواهرهم السلوكية، التي هي بمثابة التعريف المميز لهم، يقول الله تعالى في النص:

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)) .

2- إنهم فيما يتظاهرون به من قول أو عمل يقصدون مخادعة الذين آمنوا، ليأمنوا جانبهم، وليأمنوا جانب أعدائهم، ويظفروا بالمغانم والمنافع من كلا الفريقين بحسب تصورهم. وفي بيان هذه الظاهرة من ظواهرهم السلوكية يقول الله تعالى في النص:

(يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)) .

وقد نتساءل: كيف يتصورون أنهم يخادعون الله مع أن الله مطلع على ما يسرون وما يعلنون؟

ونجيب بأنهم حينما يخادعون الرسول والمؤمنين بحسب تصورهم فإنما يحاولون في واقع الأمر مخادعة الله؛ لأن الله مع رسوله والمؤمنين مؤيدًا وناصرًا، وكاشفًا لأوليائه خطط أعدائه، فهم في مخادعتهم يكبو بهم ذكاؤهم في حفرةٍ سحيقةٍ من حفر الحماقة والغباء.

وفعل (يخادعون) يدل على أنهم يبالغون جدًّا في استخدام الخداع ويمعنون فيه، حتى كأن معركة المخادعة التي يشترك فيها الخصمان قائمة بينهم وبين المؤمنين.

هذا ما يقصدونه، ولكنهم في الحقيقة لا يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون، وذلك لأن ما يخدعون به مكشوف كله لله، والله يدبر لهم ما يفسد خداعهم ويعيد شرهم عليهم، وينصر رسوله والمؤمنين، فيكون حالهم بذلك كحال من يخدع نفسه؛ لأن خداعهم يعود عليهم.

إن الذي يخدع من لا يخدع ويعرض نفسه لعقوبته وانتقامه إنما يخدع نفسه.

3- في قلوبهم مرض خلقي هو السبب في سلوكهم مسالك النفاق، وهذا المرض عرض طارئ وليس من أصل التكوين الفطري، ولذلك سماه الله مرضًا، وكذلك سائر الأمراض. ولدى البحث عن هذا المرض يتبين لنا ما سبق ذكره من الجبن، والطمع الشديد بالمنافع والمغانم الدنيوية، وخلق الجحود والكنود، وخلق الكذب. وفي بيان هذا الوصف من أوصافهم، يقول الله تعالى في النص:

(فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)) .

وفي قوله تعالى: (فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا) : بيان للعقوبة المعجلة التي يعانون من آلامها عن طريق مرض قلوبهم نفسه، الذي جعلهم يسلكون مسالك النفاق، فعذاب النفس من خلق الخوف الذي يتولد عن الجبن، ويزيده الخوف من انكشاف أمرهم وهتك سترهم، وعذاب النفس الذي يولده الطمع وخوف الحرمان، وعذاب الضمير الذي قد يحدث نتيجة جحود الحق والاستمرار على تلفيق الأكاذيب ومخالفة طبيعة الفطرة، كل ذلك من العقوبات المعجلة التي يعانون من آلامها المتفجرة من داخل أنفسهم، وعن طريق المرض نفسه الذي جعلهم ينافقون.

أما العقوبة المؤجلة فجاء بيانها في قوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) .

4- ومن ظواهرهم السلوكية أنهم يفسدون في الأرض بأقوالهم وأعمالهم، فإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض، بهتوا الحقيقة بكل وقاحة، وجعلوا الباطل حقًّا والحق باطلًا، دونما حياء ولا تلجلج، وقالوا: إنما نحن مصلحون، وأخذوا يبررون سلوكهم المنافق المفسد بأنه من الأعمال الإصلاحية، وربما كانت غلبة أهوائهم عليهم تجعلهم يتصورون أن ما يفعلونه إنما هو من قبيل الإصلاح ولا إفساد فيه. وفي بيان هذا من أوصافهم يقول الله تعالى في النص:

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12)) .

أي: لا يشعرون أنهم هم المفسدون، بل يتصورون أن خطتهم خطة إصلاح، وقد يشعرون بأن خطة المسلمين خطة إفساد.

5- ومن ظواهرهم السلوكية أنهم يزعمون لأنفسهم الذكاء ورجاحة العقل، وحسن التصرف في الأمور، للتخلص من المآزق الحرجة التي يواجهونها، ويرون أن المؤمنين الصادقين في إيمانهم أناس سفهاء، ناقصو العقل قليلو التفكير. وفي بيان هذا من أوصافهم يقول الله تعالى في النص:

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ (13)) .

فلو كشفوا عن حقيقة الأمر لعلموا أنهم هم السفهاء ناقصو العقل قليلو التفكير؛ لأنهم بما يسلكون يدفعون بأنفسهم إلى مواقع الآلام المعجلة والشقاء الأبدي، ومن أكثر سفاهة ممن يفعل بنفسه مثل ذلك؟

وهذه الظاهرة ملاحظة في كل الذين لا يكترثون بالدين، ولا يقيمون له في نفوسهم وزنًا، إنهم يتصورون أن المتدينين ضعفاء العقول ناقصو التفكير، تؤثر عليهم الأوهام وتستولي عليهم الخرافات، لكن أكثر الناس ذكاءً ورجاحة عقل هم مؤمنون متدينون، يعرفون كيف يبنون في حاضرهم مستقبلهم السعيد، وكيف يحمون أنفسهم من المخاطر المرتقبة. والأنبياء من أذكى الناس وأرجحهم عقولًا، ولئن كان يوجد في المتدينين من هم أقل ذكاء من بعض الذين لا يقيمون وزنًا للدين، فإن فطرتهم السليمة أعطتهم شعورًا فطريًّا بالحقيقة، فرؤيتهم لها أو إحساسهم بها أصح من رؤية أنصاف الأذكياء الذين رفضوا دين الله لعباده.

ولدى التمحيص نلاحظ أن الذين لا يؤمنون يظل الشك والتخوف يملأ قلوبهم قلقًا واضطرابًا، فهم السفهاء ناقصو العقل، وإن كانوا في أعمال الخبث والمكر والكيد أذكياء، فذكاء المجرم لا قيمة له في ميزان العقل الصحيح، ومن أجل ذلك وصفهم الله بأنهم هم السفهاء لا المؤمنون، وأعاد عليهم الوصف الذي وصفوا به المؤمنين.

ولا تخفى نزعة العجب والكبر والاستعلاء والغرور بالنفس، واستنكار دعوتهم إلى الإيمان الصادق، في مقالتهم: (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ )؟!.

نعم لا يعلمون هذه الحقيقة فيهم، وهم يزعمون أنهم أذكياء جدًّا، وهذا الزعم يملؤهم غرورًا بأنفسهم، والغرور بالنفس يغشي على صاحبه فيخفي عنه وجه الحقيقة.

6- ومن ظواهرهم السلوكية أن لهم أكثر من وجه، فلهم وجه يستعلنون به إذا لقوا الذين آمنوا، ولهم وجه آخر يتوارون به ولا يظهرونه إلا إلى شياطينهم، أي: إلى إخوانهم الكافرين أمثالهم، أو إلى الموسوسين لهم بأن يسلكوا مسلك النفاق من شياطين الإنس، كاليهود، ويبررون لإخوانهم هذا التلون بأنهم يستهزئون بالمؤمنين، أي: يستغفلونهم، ويخدعونهم، ويغررون بهم، ويترصدون غراتهم، للإيقاع بهم، أو التخلي عنهم في أوقات الشدائد. وفي بيان هذا من أوصافهم يقول الله تعالى في النص:

(وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)) .

وطريقة المنافقين في الاستهزاء طريقة منافقة مستخفية غير مستعلنة، وليست مثل طريقة استهزاء الكافرين الصرحاء، فللكافرين الصرحاء طريقة أخرى في الاستهزاء، هي طريقة الذي يواجه خصمه بهزئه.

وقد يدرك المؤمنون أن المنافقين يستهزئون بهم، وذلك من خلال تصرفاتهم وفلتات ألسنتهم. ومعلوم أن المنافق إذا كان في مجلس من يخدعهم بنفاقه، ورأى أو سمع ما لا يعجبه؛ انفعلت نفسه تجاهه بحركة خفية من حركات الهزء والسخرية، ثم يسارع إلى كتمها وإخفائها لئلا تدل على حقيقته. ومهما يكن من أمر فإن الله مطلع عليهم، وهو ينتصر لأوليائه، فيستهزئ من أعدائه، فيملي لهم، ويمدهم في طغيانهم يعمهون، أي: يترددون متحيرين لا يدرون على أي منهج يسيرون، هذا معنى يعمهون، والعمه أيضًا يكون في الفكر والبصيرة كالعمى في البصر.

ثم جاء في النص الحكم عليهم وتقويم سلوكهم في الحياة، وبيان موقعهم في الظلمات، وكشف واقع الخسران العظيم