موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصدق(ك - الصدق في العهد وفي الوعد والكذب فيهما)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الصدق(ك - الصدق في العهد وفي الوعد والكذب فيهما)
283 0

الوصف

                                                                الصدق

                                               ك - الصدق في العهد وفي الوعد والكذب فيهما
                               الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> الفصل الأول: حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >> 3- الصدق >>

ك - الصدق في العهد وفي الوعد والكذب فيهما:

ويكون الصدق والكذب في الوعد والعهد، فمن الناس من يعدون وهم يريدون أن يوفوا بما يعدون به فهم صادقون في وعدهم، ومنهم من يعدون وهم لا يريدون أن يوفوا بما يعدون به فهم كاذبون في وعدهم. ومن الناس من يعاهدون وهم يريدون أن يوفوا بما يعاهدون عليه، فهم صادقون في عهودهم، ومنهم من يعاهدون وهم لا يريدون أن يوفوا بما يعاهدون عليه فهم في عهودهم كاذبون.

والصدق في الوعد وفي العهد من الفضائل الخلقية التي يتحلى بها المؤمنون، والكذب في الوعد وفي العهد من الرذائل الخلقية التي يجتنبها المؤمنون الصادقون الذين يعملون الصالحات.

ويشترك الوعد والعهد بأن كلًا منهما إخبار بأمر جزم المخبر بأن يفعله، ويفترقان بأن العهد يزيد على الوعد بالتوثيق الذي يقدمه صاحب العهد، من أيمانٍ مؤكدة.

والمواعدة مشاركة في الوعد بين فريقين، والمعاهدة مشاركة في العهد بين فريقين، فيعد كل من الفريقين المتواعدين صاحبه بما سيفعل، ويعاهد كل من الفريقين المتعاهدين صاحبه بما سيفعل.

قال أهل اللغة: والوعد غالبًا يكون في الخير، فإذا كان الإخبار في الشر فهو (الإيعاد) وفعله (أوعد).

فمن وعد أو عاهد وكان ناويًا الوفاء بما وعد به أو عاهد عليه ثم لما جاء وقت الوفاء غير رأيه فلم يف، فإنه يسمى ناقضًا ناكثًا لوعده أو عهده مخلفًا به، فإذا جاء وقت الوفاء فعجز عنه لسبب من الأسباب فهو معذور بإخلافه.

فليس كل مخلفٍ كاذبًا، وإنما المخلف الكاذب من كان عند وعده أو عهده غير عازمٍ على الوفاء، ونقض العهد ونقض الوعد رذيلة خلقية أساسها عدم تأدية الحق الذي يجب بالالتزام، ما لم يكن عدم الوفاء خيرًا منه، ففعل ما هو خير هو الأفضل في الإسلام، وذلك لأن الإسلام يحث دائمًا على فعل ما هو خير؛ وقد جاء في الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير.

وبمثل ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يفعلوا، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه وليفعل. أي: وليفعل ما هو خير.

وبمثل ذلك أيضًا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سمرة فيما رواه البخاري ومسلم.

فالإخلاف بالوعد أو بالعهد له أربع أحوال:

الحالة الأولى:
التعبير العملي عند حلول أجل الوعد أو العهد عن الكذب في القول منذ إعطاء الوعد أو العهد، وهو في هذا يحمل رذيلة الإخلاف المستند إلى رذيلة الكذب.

الحالة الثانية:
النكث والنقض لما أبرمه والتزم به من وعد أو عهد، وهذا يعبر عن ضعف الإرادة وعدم الثبات، وعدم احترام شرف الكلمة وثقة الآخرين بها، وهذا الخلق يفضي بصاحبه إلى النبذ من ملاك جماعة الفضلاء الذين يوثق بهم وبأقوالهم.

الحالة الثالثة:
التحول إلى ما هو أفضل وخير عند الله، والانتقال إلى ما هو أكثر طاعة لله، إلا أن هذه الحالة لا تكون في العهود العامة، التي تدخل فيها حقوق دولية، ولا في العهود التي ترتبط بها حقوق مادية للآخرين من الناس.

أما العهد مع الله في التزام أمرٍ من الأمور، فقد تجري المفاضلة بينه وبين غيره، لاختيار ما هو أقرب إلى طاعة الله وتحقيق مرضاته.

الحالة الرابعة:
العجز عن الوفاء لسبب من الأسباب، ومن عجز عن الوفاء مع صدق رغبته به وحرصه عليه فهو معذور، لعدم استطاعته.

وأما حالة النسيان فهي من الأمور العامة التي تشمل كل واجب أو مستحب، وتنطبق عليها أحكام النسيان العامة.

وصادق الوعد والعهد هو الذي يكون عازمًا على الوفاء منذ إعطائه الوعد أو العهد، ويظل حريصًا على ذلك ما لم يمنعه مانع من التنفيذ يعذر به، أو كان ترك الوفاء استجابة لرغبة من كان الوعد أو العهد من أجله وابتغاء مرضاته أو مسرته.

وعد الله وعهده:

وأما وعد الله وعهده فليس لكل منهما إلا حالة واحدة هي الصدق، والوفاء عند حلول الأجل.

أما الصدق فلأنه سبحانه يستحيل عليه الكذب، في أية حال من الأحوال، وأما الوفاء فهو أمر تستدعيه حتمًا صفات الله المثلى. فهو سبحانه وتعالى حينما يعطي الوعد أو العهد، فإنه يختار بحكمته العظيمة وعلمه المحيط بكل شيء أفضل الأمور التي تستدعيها الحكمة، وعلم الله لا يتخلف وحكمته لا تنقض ولا تتبدل، ولا يكون في مرادات الله إلا الثبات، وسيظل الأفضل هو الأفضل، وسيظل المراد الموعود به هو المراد الأفضل عند حلول أجل التنفيذ. ثم إن الله تبارك وتعالى قادر دائمًا على تنفيذ ما يريد، وهو على كل شيء قدير، ثم إنه تبارك وتعالى لا يضل ولا ينسى، فلا يوجد ما يمنعه سبحانه من تنفيذ وعده أو عهده، قال الله تعالى في سورة (النساء 4):

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (122)) .

ووعد الله الرسول وأصحابه في غزوة بدر أن يظفرهم بإحدى الطائفتين –العير أو النفير- فلم يخلف وعده سبحانه، بل أظفرهم بالنفير أقوى الطائفتين وأشدهما بأسًا.

وكلما حقق المؤمنون شروط وعد الله لهم بالنصر نصرهم الله، وهذه الظاهرة مطردة نشاهدها في كل المواقع التي كانت بين المؤمنين وأعدائهم، لكنهم إذا أخلوا بشروط النصر فلا وعد لهم عند الله بأن ينصرهم.

أما مواعدة الله موسى ثلاثين ليلة ثم زيادتها إلى أربعين، فهي زيادة فضلٍ، تشبه ما لو وعدت إنسانًا أن تستضيفه ثلاثين يومًا، ثم زدت ضيافتك له عشرة أخرى، فليس في الوعد السابق نقض ولا تغيير، ولذلك جاء التعبير عن هذه الزيادة المضافة بالإتمام، فقال الله تعالى في سورة (الأعراف 7):

(وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً .... (142)) .

الأمر بالوفاء بالعهد والوعد:

إن صدق الوعد والعهد والوفاء بهما من فضائل الأخلاق، ومن روائع الظواهر الحضارية.

أما الكذب في الوعد والعهد وعدم الوفاء بهما فمن رذائل الأخلاق ومن مظاهر التخلف الحضاري، وهما من أخلاق الأمم التي لا تحترم نفسها، ولا تكترث بارتقاء سلم المجد الإنساني، بل تهون عليها أنفسها هوانًا يرضيها بمواقع المهانة والضعة والانحطاط.

ولما أخذ الإسلام بأيدي المسلمين إلى قمم الفضائل ومعارج الحضارة المثلى، كان من الأخلاق التي حث على التحلي بها صدق الوعد والعهد والوفاء بهما، فقال الله تعالى في سورة (الإسراء 17):

(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34)) .

وقال تعالى في سورة (الأنعام 6):

(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)) .

وشبه الله الذين ينقضون عهودهم ومواثيقهم بالمرأة الحمقاء، التي تغزل غزلها ثم تعود عليه فتنقضه من بعد قوة أنكاثًا، فقال تعالى في سورة (النحل 16):

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا .... (92)) .

ووصف الله المؤمنين في سورة (المعارج 70) ونظيره في سورة (المؤمنون 23) بقوله:

(وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)) .

وجعل الله الوفاء بالعهد من البر، وأبان أن من صفات البررة أنهم موفون بعهدهم إذا عاهدوا، فقال تعالى في سورة (البقرة 2):

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا .... (177)) .

ووصف الله أولي الألباب بأنهم يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، فقال تعالى في سورة (الرعد 13):

(أَفَمَن يَّعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)) .

ولما كان الوفاء بالعهد من الأخلاق الإيمانية ذات الدرجات الرفيعة أثنى الله على المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وذلك في معرض ذكر أحداث غزوة الأحزاب، فقال الله تعالى في سورة (الأحزاب 33):

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)) .

أما المنافقون فقد نقضوا عهودهم في هذه الغزوة، فقال الله تعالى في شأنهم في سورة (الأحزاب 33) أيضًا:

(وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُولاً (15) قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16)) .

والوفاء بالوعد والعهد والصدق فيهما من أخلاق الأنبياء والمرسلين، ومن الأخلاق التي دعت إليها الأديان الربانية كلها، وعنها ورثت الأمم ما تطبقه من فضيلتيهما، وقد أثنى الله على إسماعيل عليه السلام بأنه كان صادق الوعد، فقال تعالى في سورة (مريم 19):

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)) .

وكأن الله قد خصص هذا الخلق من أخلاق إسماعيل بالذكر