موسوعةالأخلاق الإسلامية- حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك(1- تمهيد)

موسوعةالأخلاق الإسلامية- حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك(1- تمهيد)
235 0

الوصف

                                                               حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك

                                                                           1- تمهيد
                                         الباب الرابع : جوامع مفردات الأخلاق وكلياتها الكبرى >> حب الحق وإيثاره وظواهره السلوكية وأضداد ذلك >>

1- تمهيد

ظهر لي بالتأمل التحليلي أن من الأصول الخلقية وكلياتها العامة حب الحق وإيثاره، وأن لهذا الأصل فروعًا أخلاقية متعددة، منها الصدق، ومنها العدل، ومنها الوفاء بالعهد والوعد، ومنها الأمانة إلى غير ذلك.

والانحراف عن هذا الأصل الخلقي العام يفضي إلى السقوط في رذائل خلقية متعددة، منها الكذب، ومنها الظلم، ومنها الغدر، ومنها الخيانة، ومنها قسوة القلب عن قبول دعوة الحق، إلى غير ذلك.

ولهذا الانحراف أسباب كثيرة، ترجع معظمها إلى الأنانية الذاتية المفرطة، وغلبة الأهواء والشهوات، ويرجع بعضها إلى خبث النفس وكراهيتها للآخرين، ونزغاتها الشيطانية الشريرة.

وباستطاعتنا أن نجد الإشارة إلى هذا الأصل الخلقي العام في طائفة من النصوص الإسلامية.

يقول الله تعالى في سورة (الحجرات 49):

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)) .

فدل هذا النص على أن الله قد حبب إلى قلوب المؤمنين الإيمان، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ومعلوم أن الإيمان هو التصديق بأجل الحقائق الكبرى، فحب الإيمان أول ظاهرة جليلة الخطر من ظواهر حب الحق، إذ الأركان الذي يجب الإيمان بها في الإسلام هي من الحق، وحب الإيمان بها حب للحق وإيثار له على الباطل. وحب الحق يستلزم كراهية الباطل وما يتصل به، وإن تعلقت به أهواء النفوس وشهواتها، ولما كان الكفر والفسوق والعصيان من الباطل، كان من الطبيعي أن تكرهه قلوب المؤمنين الذين أحبوا الحق وآثروه.

ولما أحب المؤمنون الحق وآثروه على أهوائهم وشهواتهم آمنوا بالإسلام واتبعوا الهدى.

أما الكافرون فقد كرهوا الحق الذي يخالف أهواءهم وشهواتهم، فكفروا بالإسلام واتبعوا الشياطين، واتخذوا أهواءهم وشهواتهم آلهة لهم من دون الله، وإذ كرهوا الحق كرهوا الداعين إليه والناصحين به، وكان من الطبيعي فيهم أن يحبوا الباطل الموافق لأهوائهم وشهواتهم، ويؤثروا العمى على الهدى، قال الله تعالى يصف ثمود في سورة (فصلت 41):

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يتَّقُونَ (18)) .

فهؤلاء ثمود قد استحبوا العمى وهو الكفر على الهدى وهو الإيمان، ومعلوم أن الكفر التزام بالباطل، والهدى استمساك بالحق.

ولما كره الكافرون الحق وأحبوا الباطل كرهوا الدعاة إلى الحق والناصحين به، ولذلك خاطب صالح عليه السلام قومه ثمود بقوله: (وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) .

هذا ما قصه الله علينا حكاية لقول صالح بقوله في سورة (الأعراف 7):

(وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)) .

وكرهوا أيضًا ظهور الحق وانتشاره، وكرهوا إحقاق الحق وإبطال الباطل، قال الله تعالى في سورة (الأنفال 8):

(وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) .

فهؤلاء المجرمون يكرهون إحقاق الحق وإبطال الباطل؛ لأن ذلك يضر بمنافعهم وامتيازاتهم وزعاماتهم القائمة على الباطل، فهم يحبون ظهور الباطل حرصًا عليها، ويكرهون ظهور الحق خوفًا من فواتها.

وقال الله تعالى في سورة (يونس 10):

(وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)) .

فالمجرمون في كل زمان يكرهون إحقان الحق؛ لأنه يخالف ما هم عليه من باطل.

ويكره الكافرون بالحق أن يمتد نوره ويعم؛ لأنهم يريدون أن تظل الجماهير الجاهلة مسخرة لأهوائهم، خاضعة لزعاماتهم الباطلة، ومتى ظهر نور الحق وعم انتشاره تيقظت الجماهير المسخرة لهم من غفلتها، وألقت عن ظهورها أوزار المتحكمين بهم، والمتسلطين عليهم من المجرمين الكافرين بالحق، الظالمين لعباد الله، وفي شأنهم يقول الله تعالى في سورة (التوبة 9):

(يُرِيدُونَ أَن يُّطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُّتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)) .

ويقول سبحانه في سورة (الصف 66):

(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)) .

والمقصود بنور الله هنا نور المعرفة والعلم، ونور رسالة الحق التي أرسل الله رسوله بها، والكافرون يحاولون أن يطفئوا نور هذه الرسالة الحقة بأضاليلهم التي يقولونها بأفواههم، ليغشوا بهذه الأقوال على عقول أتباعهم فلا يروا نور الحق المبين، ونور الله لا تطفئه أفواه المضلين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

ولدى الإحصاء الإنساني نجد أن أكثر الناس يكرهون الحق، متى صادم أهواءهم وشهواتهم ومصالحهم ومنافعهم ولذاتهم الخاصة، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة (المؤمنون 23):

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (71)) .

ويقول الله تعالى في سورة (الزخرف 43):

(لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)) .

فأثبت الله في كل من هذين النصين أن أكثر الناس للحق كارهون، وبين النص الأول منهما السبب في كراهيتهم للحق بقوله تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) فدل هذا على أن أهواء نفوسهم الجانحة عن سبيل الهدى هو السبب في كراهيتهم للحق، وحين تسيطر على الإنسان أهواؤه وشهواته تقع عواطفه تحت تأثير هذه السيطرة، فيتجه حبه وتتجه كراهيته وفق اتجاه أهوائه وشهواته، لا وفق منطق عقله ومشاعر وجدانه الفطرية الأصيلة السليمة.

وقد نلاحظ أن بعض المؤمنين الذين يحبون الإيمان ويكرهون الكفر، قد يحبون من دون الكفر أمورًا من الباطل تشتهيها نفوسهم أو تميل إليها أهواؤهم، كما نلاحظ أن بعض غير المؤمنين الذين يحبون الكفر ويكرهون الإيمان، قد يحبون من دون الإيمان أمورًا من الحق تميل إليها عواطفهم وفطرهم.

ونستطيع أن نسمي هذا نزوعًا جزئيًّا إلى الباطل، وحبًّا جزئيًّا له في نفوس الذين يحبون الحق ويؤثرونه، ونزوعًا جزئيًّا إلى الحق، وحبًا جزئيًّا له في عواطف الذين يحبون الباطل ويؤثرونه. ومعاصي المؤمنين قد يكون كثير منها ظواهر لهذا الحب الجزئي للباطل، بتأثير أهواء نفوسهم وشهواتهم، وفضائل غير المؤمنين قد يكون كثير منها ظواهر لهذا الحب الجزئي للحق، بتأثير جوانب من فطرهم السليمة، وعواطفهم الإنسانية الكريمة، ونجد الإشارة إلى هذا النزوع الجزئي في قول الله تعالى في سورة (النور 24):

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (19)) .

مع أن بعض هؤلاء قد كانوا من المؤمنين، إلا أنهم سقطوا في معصية إشاعة الاتهام الكاذب على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حتى نزل القرآن ببراءتها وطهارتها.

فحب الحق وإيثاره خلق ينتج عنه فضائل عظيمة خلقية وسلوكية، وحب الباطل وإيثاره خلق ينتج عنه رذائل خلقية وسلوكية فاحشة، إذن فهو أصل من الأصول الأخلاقية العامة، وله فروع متعددة، فلنبحث في هذه الفروع بشكل تفصيلي.