موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية(12- ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية(12- ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون)
126 0

الوصف

                                                             خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية

                                                                   12- ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون
                                 الباب الثالث: الرسول ذو الخلق العظيم وتربية القرآن له في مجال السلوك الخلقي >> الفصل الأول: خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية >>

12- ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون

وفي تأديب الله لرسوله، حتى يكون في حالة نفسية رضية مطمئنة، متوازنة خلقيًّا بين مختلف المثيرات والمهيجات الانفعالية العاطفية، أنزل الله عليه قوله في سورة (طه 20):

(طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)) .

ثم أنزل عليه قوله في سورة (النمل 27):

(وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)) .

ثم أنزل عليه قوله في سورة (النحل 16):

(وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)) .

فكرر عليه هذا التوجيه التربوي مرتين، وأضاف في المرة الثانية قوله: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) أي معهم بتأييده ونصره ومعونته، ومعهم بنفحات قدسه التي تؤنسهم وتسعدهم وتشرح صدورهم.

والتوازن الخلقي النفسي الذي يربي الله رسوله عليه في هذين النصين إضافة إلى خلق الصبر، يشتمل على عنصرين:

العنصر الأول:
أن يجعل لرحمته بقومه حدودًا، وعليه أن لا يتجاوز هذه الحدود، فهو يرحمهم رحمة عظيمة، فيدعوهم إلى هدايتهم ورشادهم وسعادتهم، ويكون حريصًا عليهم، عزيزًا عليه عنتهم، لكنهم إذا ختاروا لأنفسهم سبل ضلالتهم وتعاستهم وشقائهم، فلهم شأنهم، وعليهم أن يتحملوا نتائج اختيارهم، وإذا كان الأمر كذلك فيجب عليه أن لا يحزن عليهم، فشفقته عليهم لا ينبغي أن تصل إلى منطقة تتعارض فيها مع حكمة ابتلائهم، القائم على اختيارهم، والمستلزم لعقابهم، فالشفقة عليهم عندئذ في غير محلها، والحزن عليهم عندئذ في غير محله. ويجب عندئذ أن تأتي عاطفة الرضا بالعدل الرباني والتسليم التام لحكمة الله في خلقه. فمن كان كامل الوعي، جيد المعرفة، حر الإرادة، واختار لنفسه سبيلًا، فعليه أن يتحمل نتائج اختياره، ولا ينبغي أن يكون غيره أشفق عليه من نفسه.

نعم قد تكون الشفقة مع حالة من حالات العذر، كفقدان الوعي، والجهل بالأمر وما يفضي إليه، وفقدان الإرادة الحرة، لكن إذا لم يكن شيء من ذلك فلماذا يعذب الرحيم الرؤوف نفسه من أجل إنسانٍ ركب رأسه عنادًا، ولم يشفق على نفسه من العذاب الأليم مع بيانه له، وإرشاده إلى طريق سلامته وسعادته.

ولما كانت رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بقومه عظيمة جدًّا، ورأفته بهم عاطفة سائدة، كان بحاجة إلى جرعات متعددة من التأديب الرباني، لشد لجام عاطفة الرأفة والرحمة، حتى تقف عند الحدود التي يحسن في ميزان الخلق السوي الفاضل أن لا تتجاوزها، فأنزل الله عليه قوله في سورة (فاطر 35):

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)) .

أي أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنًا تكون أنت يا محمد قادرًا على أن تكرهه على الهداية، وقد منحه الله الاختيار ليمتحنه، فيحكم عليه بعد ذلك بالضلال ضمن مشيئته الحكيمة، أو يحكم له بالهداية ضمن مشيئته الحكيمة، الموافقة لمقتضى عدله أو فضله. فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إذا هم اختاروا لأنفسهم سبل ضلالهم وشقائهم، وساروا إلى نهاياتهم التعيسة.

ثم أنزل الله عليه قوله في سورة (الشعراء 26):

(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)) .

لعلك باخع نفسك: أي لعلك مهلك نفسك وقاتل نفسك حزنًا عليهم؛ لأنهم لم يؤمنوا.

ثم أنزل الله عليه قوله في سورة (النمل 27):

(وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ (70)) .

ثم أنزل عليه قوله في سورة (الحجر 15):

(لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ... (88)) .

ثم أنزل عليه قوله في سورة (لقمان 31):

(وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)) .

ثم أنزل عليه قوله في سورة (الكهف 18):

(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً (7)) .

أي فلعلك مهلك نفسك أسفًا وحزنًا على آثارهم إن لم يؤمنوا بالقرآن وما جاء فيه، وليكن بعلمك أنهم في هذه الحياة الدنيا في موضع الابتلاء، لنبلوهم أيهم أحسن عملًا، ومقتضى الامتحان أن يختار منهم فريق طريقه إلى الجنة، ويختار منهم فريق طريقه إلى النار.

ثم أنزل الله عليه قوله في سورة (النمل 27):

(وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ .... (70)) .

وهكذا تكررت على الرسول صلى الله عليه وسلم من ربه التوجيهات التربوية في المرحلة المكية ليخفف من شدة عاطفته نحو الذين اختاروا من قومه سبيل الكفر على سبيل الإيمان، فلا يحزن عليهم، واشتمل هذا التوجيه على الإقناع بأصل الغاية من الخلق.

أما في المرحلة المدنية فقد غدت عاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم متجهة بقوة للمحافظة على من أسلم واتبعه، حرصًا على قوة المسلمين ورغبة باستعلاء دين الله، وغدت نفسه يشتد فيها الحزن إذا رأى بعض من أسلم يسارع في الكفر، وكان هؤلاء من فئة المنافقين في حقيقة الأمر، فأنزل الله عليه في أوائل العهد المدني قوله في سورة (آل عمران 3):

(وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)) .

ثم أنزل عليه في أواخر العهد المدني قوله في سورة (المائدة 5):

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ... (41)) .

فكانت هذه المتابعة التربوية لضبط عاطفة الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهها ضمن الحدود التي ينبغي أن لا تتعداها، وضبط العواطف من أهم وسائل تكوين الأخلاق الفاضلة، والسجايا الحميدة.

العنصر الثاني:
أن لا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم في ضيق مما يمكر الكافرون أي أن لا يكون في غم يشد على نفسه وقلبه ويضيق عليهما، ويذهب بانشراح الصدر. وهذا جانب آخر من التربية النفسية ذات التأسيس الخلقي، فمن شأن الإنسان أن يناله هذا الضيق كلما شعر بعنف كيد أعدائه وشدة مكرهم له، وهذه الحالة قد تفسد على البصيرة رؤيتها للأمور، فلا ترى المخارج التي تنقذ من دوائر الكيد والمكر.

وصحة الحالة النفسية من عوارض الغم والضيق تعطي ثباتًا خلقيًّا نفسيًّا، ينتج عنه سلوك خلقي قويم كريم.

ومثل الرسول صلى الله عليه وسلم يكفيه للإقناع أن يقول الله له: (وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) ومع ذلك فقد زاده الله إقناعًا بأنه معه ينصره ويؤيده، فقال له: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) .

ثم زاده إقناعًا بأنه تعالى يفسد مكرهم السيئ بمكر من عنده هو في الخير لا في الشر؛ لأنه عمل خفيٌ يبطل شرهم، ويرد عليهم سوء عملهم، ويوقعهم في الحفر التي يحفرونها للرسول والمؤمنين معه، فأنزل عليه قوله في سورة (الأنفال 8):

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)) .

ثم أنزل عليه قوله في سورة (الرعد 13):

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)) .

ومع هذا الإقناع أعطى الله رسوله الدواء الذي يمسح عن صدره الضيق، وهو التسبيح بحمد الله، وكثرة الصلاة والسجود لله، والقيام بعبادة الرب مع الاستمرار في ذلك، فقال الله له في سورة (الحجر 15):

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) .

أي حتى يأتيك الموت.