موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية(11- ادفع بالتي هي أحسن)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية(11- ادفع بالتي هي أحسن)
109 0

الوصف

                                                               خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية

                                                                  11- ادفع بالتي هي أحسن
                         الباب الثالث: الرسول ذو الخلق العظيم وتربية القرآن له في مجال السلوك الخلقي >> الفصل الأول: خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية >>

11- ادفع بالتي هي أحسن

ومما أدب الله به رسوله أن يدفع بالتي هي أحسن، أي أن يدفع أية إساءة توجه له، وأية معاملة يقابل بها، وأية كلمة يواجه بها، وأي خلق، وأية خصلة تسوؤه من غيره بالتي هي أحسن، أي بالخصلة التي هي أحسن، وبالكلمة وبالطريقة وبالمعاملة التي هي أحسن، وهذا الأدب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم موجه أيضًا لكل المؤمنين. فأنزل الله على رسوله في العهد المكي قوله في سورة (فصلت 41):

(وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)) .

ثم أنزل عليه في العهد المكي أيضًا قوله في سورة (المؤمنون 23):

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98)) .

فالرسول صلى الله عليه وسلم في طريق عودته إلى الله، لا بد أن يجد من قومه ألوانًا مما يكره، من سفاهاتهم، وجهالاتهم، وإساءاتهم، من أقوالهم ومن أعمالهم، فهل يدفع ذلك بمثله أو بأعنف منه؟

الله يقول له: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) . ويقول له: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) .

ولما كان في فطرة ضمير كل إنسان الإحساس بكمال الفضائل الخلقية وجمالها، ونقصان الرذائل الخلقية وقبحها، فلا بد أن يشعر بنقص نفسه وقبح عمله، ولا بد أن يتصاغر في نفسه ولو بعد حين، إذا هو أساء لإنسان فقابله ذلك الإنسان بالعفو والإحسان مع قدرته على أن يقابله بمثل إساءته أو بأشد منها.

فمن صبر على سوء أخلاق من أساء إليه مرة بعد مرة، ولم يقابل سفاهته بالغضب، ولا إيذاءه بمثله، ونصحه برفق، وأبان له أنه قادر على أن ينتقم منه، إلا أنه آثر أن يدفع بالتي أحسن –ابتغاء مرضاة الله، وحرصًا على روابط الأخوة الإيمانية بين المؤمنين، أو على سلامة الجماعة الواحدة وأمنها –فلا بد أن يحرك فيه جذر الحياء الكمين في أعماق نفسه، فيستحيي من إساءاته، ومما بدر منه من خلق سيئ، ومعاملة مؤذية. ومع الاستحياء تتصاغر نفسه، فيحاول أن يغطي نقيصته باسترضاء صاحبه، فيتقرب إليه بأسباب المودة، ويكف عن متابعة إساءته، وتتهدم عداوته التي حركته إلى الإساءة، حتى يكون وليًّا حميمًا، أو كأنه بمعاملته ولي حميم.

ولا يشذ عن هذا إلا ممعن في الإجرام، عدو لا يزيل عداوته إكرام ولا إحسان ولا عفو ولا أية فضيلة خلقية، وهذا الشاذ له علاجٌ خاص مستثنى من القاعدة العامة.

ولما كان من شأن الدفع بالتي هي أحسن أن يكون سببًا في تحويل الأعداء إلى أصدقاء قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) .

ولكن لا يستطيع ضبط نفسه فيدفع بالتي هي أحسن إساءات من يسيء إليه، إلا إنسان ذو إرادة قوية صبور، قادر على تحمل المكاره، وكظم الغيظ وترك الانتقام، ذو حظ عظيم من الأخلاق الفاضلة، وفي بيان هذا قال الله تعالى: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) .

ومع ضبط النفس وإيثار الدفع بالتي هي أحسن تأتي وساوس الشيطان ونزغاته، فتحرك النفس إلى الانتقام، وتزينه لها، وتوسوس بأن الشر لا يدفع إلا بمثله، وبأن الذين يبدأون بالإساءة يجب معاقبتهم بمثل إساءتهم أو بأكثر منها، حتى لا يتجزأوا على الإساءة مرة أخرى، وقد أبان الله الدواء الصارف لهذه الوساوس والنزغات، وهو الاستعاذة بالله من همزات الشياطين، فقال تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ).

وعلم الله رسوله صيغة الاستعاذة فقال له: (وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98)) .

وفي قوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) بعد الأمر بالاستعاذة بالله دليل على أن المراد من الاستعاذة ليس مجرد ذكر الاستعاذة باللسان، فالاستعاذة باللسان وحده لا تنفع ولا تدفع عن الإنسان نزغ الشيطان، وإنما الذي ينفع هو الاستعاذة اللسانية المقرونة بصدق الاستعاذة القلبية، وذلك بإحضار معناها في التصور مع اتجاه الإرادة الجازمة لذلك، واللسان مساعد لاستجماع هذه الحالة في داخل النفس.

وعلى هذا نفهم النص على الوجه التالي: فاستعذ بالله بلسانك وبقلبك، فالله هو السميع لما تذكر بلسانك والعليم بما في داخل نفسك، أي فهو عندئذ يستجيب لك فيصرف عنك وساوس الشيطان ونزغاته.

قال الإمام الرازي في قوله تعالى في سورة (الأعراف 7):

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)) .

"قوله تعالى: (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يدل على أن الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة فكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع، واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك. وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر" انتهى.

ويبدو أن مراد الإمام الرازي ليس مجرد العلم بمضمون الاستعاذة، بل العلم مع اتجاه الإرادة وصدقها في طلب الاستعاذة من الله تبارك وتعالى، ولذلك جمع العقل والقلب، وهذا في الحقيقة هو الذي ينفع في كل الأدعية وفي كل الأذكار.