موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية(5- خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية:خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية(5- خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين)
131 0

الوصف

                                                              خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية

                                                                5- خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين
                                  الباب الثالث: الرسول ذو الخلق العظيم وتربية القرآن له في مجال السلوك الخلقي >> الفصل الأول: خلق الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن وصفًا وتربية >>

5- خذ العفو وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين

بهذه الظواهر من السلوك الخلقي أمر الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ومعه كل مؤمن فقال له في سورة (الأعراف 7):

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (202)) .

ينزغنك: النزغ لا يكون إلا في الشر، يقال لغة: لا ينزغنك، أي لا يحركنك إلى الشر، ولا يستخفنك إلى فعله غضب، أو عجلة، أو رغبة جانحة، أو شيطان موسوس.

العرف المعروف، وهو ضد المنكر.

اشتمل هذا النص على توجيه من الله لرسوله ولكل مؤمن بالتحلي بثلاث ظواهر من السلوك الخلقي الحميد وهي:

أولًا:
أخذ العفو عن إساءة المسيء.

ثانيًا:
أمر المسيء بالعرف، إن كان ممن يستجيب لذلك.

ثالثًا:
الإعراض عن المسيء إذا كان من الجاهلين الذين لا يستجيبون للأمر بالمعروف.

(أ) أما ظاهرة العفو: فقد سبق شرحها لدى شرح قول الله تعالى لرسوله: (فَاعْفُ عَنْهُمْ) .

إلا أن قول الله تعالى لرسوله هنا: (خُذِ الْعَفْوَ) يشتمل على دلالة بديعة غايةٍ في إعلاء قيمة العفو، بوصفه أحد مكارم الأخلاق، إذ جعل الله العفو بمثابة ثمن عظيم يأخذه صاحب العفو، مقابل الإساءة المؤلمة التي يتلقاها من غيره، فهو جوهرة ثمينة جدًّا يضيفها إلى عقد مكارم الأخلاق التي يتحلى بها.

وهذا التعبير في إبداعه وروعته يعلن أن الأمور المعنوية تؤخذ كما تؤخذ الأمور المادية، فإذا كان المسيء قد أخذ رذيلة الإساءة، فتحولت في نفسه إلى وخزات في الضمير قد تؤلم ذا الوجدان الحي، فليأخذ المحسن فضيلة العفو، وليتمتع بلذة الشعور بمجد المكرمة، وحلاوة الرحمة والمسامحة، ونعم هذا الثمن العظيم مقابل مس الألم اليسير الذي تفعله الإساءة.

يضاف إلى هذا أن العفو ثوابه عظيم عند الله تعالى، فمن أخذ العفو فقد أخذ هذا الثواب العظيم، فملك به أجرًا عند الله لا يستطيع أن يملكه لو سلك مسلكًا آخر غير العفو.

وإذا حللنا الاحتمالات التي يمكن أن يلجأ إليها الإنسان، في المواقف المحرجة التي يتعرض فيها لعدوان غيره عليه، وإيذائه له، لم نجد شيئًا منها يكون سببًا لشيء يؤخذ حقًّا غير خطة العفو. أما الاحتمالات الأخرى ففيها خسارة لا ربح، لكن خطة العفو خطة رابحة، والربح أخذ والخسارة نقصان.

والاحتمالات تنحصر فيما يلي:

1- إما أن يقابل العدوان بمثله، وهذا هو الانتقام بالعدل.

2- وإما أن يقابل العدوان بأشد منه، وهذا انتقام بإجحاف، وهو يولد في المجتمعات شرورًا لا حد لها.

3- وإما أن يعفو، وهذه هي خطة الرشد التي تأمر بها مكارم الأخلاق؛ لأنها من الفضائل التي تقطع الشرور، وتشيع السلم، وتطفئ نيران الغضب والحمق، وتصغر الجاهل الغضوب الأحمق في نفسه، وتؤلب ضده جماهير العقلاء.

وتظهر لنا قيمة أخذ العفو إذا عرضناه في الصورة التمثيلية التالية:

أقام أحد المربين ساحة للامتحان الأخلاقي، وأخبر فريقًا من تلامذته بأنه سيدفع بهم إلى هذه الساحة، وأنهم سيتعرضون فيها لمن يؤذيهم، وأنهم سيجدون أنفسهم في مواجهة هؤلاء المؤذين أمام احتمالات يعملونها.

ففي وسط الساحة وعلى القرب منهم باب يقال له: باب العفو، إذا دخلوا منه خلصوا من احتمال مضاعفة الأذى، وحموا أنفسهم ووجدوا وراء هذا الباب مكانًا رحبًا، وقصرًا منيفًا، وحدائق وارفات الظلال، ثم يأتي إليهم خدم فيقدمون لهم ما يريدون من مالٍ ونعيم، ويقولون لهم: هذا عندنا ثواب من دخل باب العفو، إذ كان من العافين عن الناس.

وفي أقصى الساحة باب يقال له: باب الانتقام بالعدل، فمن أراد أن ينتقم لنفسه ممن آذاه فإنه سيجد نفسه مضطرًا إلى مطاردة من آذاه، حتى يلهث من شدة العدو، ويبذل جهدًا في المطاردة، وأخيرًا يسبقه من آذاه فيدخل في باب الانتقام بالعدل، فيلاحقه الرجل فيدخل وراءه فيجد نفسه في ساحة العدل، وعندئذٍ قد يتمكن من مقابلته بالمثل، وربما كان المعتدي صاحب شر فيقاوم، وتشتد المعركة، وقد لا يظفر في هذه المعركة صاحب الحق، فلا يستطيع أن ينتقم لنفسه، فإن ظفر وانتقم لنفسه وانتهى الأمر، نظر في ساحة العدل فلم يجد شيئًا يأخذه، فرجع من حيث أتى جاهدًا تعبًا، لا يحمل ربحًا، ولم يصب متعة ولا مالًا.

وفي أقصى ساحة العدل أبواب يخرج منها المعتدون والمنتقمون بالعدل، فمن لاحق من المنتقمين خصمه من واحدٍ منها ليسرف في الانتقام أكثر من حقه انزلق في وادي الظلم، فأصابه فيه على مقدار ظلمه تهشيم وبلاء، ثم يخرج وهو يحمل أوزاره، وقد عرض نفسه لينتقم منه بمقدار ما زاد على حقه.

وقد أجرى المربي الأخلاقي اختباره على أتقن وجه. فكان من دخل باب العفو من المنعمين المكرمين المحظوظين بالعطاء السخي. وكان من دخل باب الانتقام بالعدل ولم يتجاوز حدود ساحة العدل محرومًا من العطاء والتنعيم والتكريم، ورجع بعد خسارة الجهد بخفي حنين. وكان من تجاوز ساحة العدل إلى وادي الظلم محرومًا من العطاء ومن راحة النفس، ورجع يحمل أوزاره مطلوبًا بعد أن كان طالبًا.

فأي الثلاثة هو الآخذ الرابح؟ إنه من أخذ العفو، فما أروع قول الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ) .

(ب) وأما ظاهرة الأمر بالعرف: فهي هنا فضيلة تتبع فضيلة أخذ العفو، فمن الرحمة بالمسيء العفو عنه، وتعليمه فضيلة البر والإحسان بشكل عملي، ثم محاولة إصلاحه بتوجيه النصيحة الطيبة له، وأمره بالمعروف، لعل ذلك يقنعه بالحق وبالخير وبحسن الأخذ بالفضائل، فينقله إلى ما يجب أن يلتزم به من الكف عن الإساءة والظلم والعدوان.

إن من يعفو عن المسيء يقدم له بالعفو وسيلة تربوية عظيمة لإصلاحه وتهذيبه، ويهيئه بذلك لتقبل نصيحته، وذلك لأن من ناله أذى من أحد إخوانه المسلمين فصبر عليه وعفا عنه وسلك طريق الفضيلة المثلى، وأخذ بخطة الرشد، فإنه لا بد أن يرتفع في نفس من آذاه، إذا كان هذا الذي آذاه إنسانًا ذا ضمير مؤمن؛ لأن هذا لا بد أن يحس في قرارة نفسه بأن من عفا عنه مع قدرته على أن ينتقم منه أكرم منه نفسًا، وأفضل منه خلقًا، وأعلى منه مكانة، فيتصاغر في نفسه أمام من عفا عنه. ومتى وصل الإنسان إلى مثل هذه الحالة من الشعور كان أكثر استعدادًا لتقبل النصيحة لا سيما من قبل الشخص الذي عفا عنه، وقلما يتمرد على نصيحته، إذ سيكون مدفوعًا بدافع تغطية النقص الذي ارتكبه، فيستكين للنصيحة التي يقدمها له من رأى أنه أكمل منه خلقًا. ولما كان الأمر كذلك كانت الفرصة مواتية جدًّا للأمر بالمعروف.

فعلى من سلك طريق فضيلة العفو أن يغتنم الفرصة فيأمر صاحبه بالمعروف، ما لم يكن صاحبه من الجاهلين أهل الغضب الذي يزيدهم مثل هذا الأمر تمردًا ووقاحة وعنادًا، ولكن حكمة الأمر بالمعروف في مثل هذا الموقف تقتضي منه أن يختار الأسلوب والكلام الملائم تمامًا للموقف الذي هو فيه، عندئذ يجمع في موقف واحد فضيلتين: فضيلة العفو، وفضيلة الأمر بالعرف، وينتج عن هاتين الفضيلتين خيرٌ كثير.

والسر في اختيار كلمة: (العرف) هنا بدل كلمة: (المعروف) الإشارة من طرف خفي إلى أن الأمر بالمعروف في مثل هذا المقام ينبغي أن يكون رفيقًا مقتضبًا، لا عنيفًا ولا مسهبًا؛ لأن الموقف لا يتحمل العنف ولا الإسهاب.

(ج) وأما ظاهرة الإعراض عن الجاهلين: فهي هنا فضيلة تتبع أيضًا فضيلة العفو، وذلك لأنه قد يوجد في المسيئين أقوام جاهلون، يسيئون ولا يقبلون النصيحة، ولا يؤثر فيهم الأمر بالمعروف مهما كان حكيمًا، رغم العفو عنهم وعدم مجازاتهم على إساءاتهم، وألطف وسيلة لمعالجة هؤلاء والخلاص من شرورهم الإعراض عنهم، والانصراف عن الأمكنة التي يكونون فيها.

لأن هذا الصنف من الناس لا يناسبه في مثل هذا الموقف الأمر بالعرف، إذ سيجعله يتمادى ويتطاول في غيه، ولكن يناسبه الإعراض عنه، حتى يشعر بأنه منبوذ يتقى شره، فإن كان فيه شيء من خير أصلحه ذلك، وإلا بقي منبوذًا، وصار الناس يتحامون شره وأذاه.

فالإعراض عن الجاهلين ظاهرة خلقية تتبع ظاهرة أخذ العفو.

وهكذا كان توجيه الله لرسوله أن يأخذ العفو، ويأمر بالعرف، ويعرض عن الجاهلين، وكذلك كان خلق الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا التوجيه من الله موجه أيضًا لكل مؤمن أن يأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين، ولكن أكثر الناس يستخفهم الغضب متى وجهت لهم الإساءة أو الأذية، فيخرجون عن طور الرصانة والثبات، وتتحرك نفوسهم للانتقام ممن أساء إليهم أو آذاهم، وتمتد على بصائرهم غشاوة تحجب عنهم رؤية الفضيلة، ولا يرون إلا إرضاء نفوسهم الراغبة بالانتقام، ولا يمر في خاطرهم إلا البحث عن الوسائل التي تحقق لهم إرضاء نفوسهم. وقد جاءت التربية الإسلامية بعلاج لهذه الحالة، فأعلمت المؤمن أن هذا من نزغات شيطان النفس، وأن باستطاعته أن يطردها بأن يستعيذ بالله، فالاستعاذة بالله سلاح معنوي قوي لطرد نزغ الشيطان عن النفس، وفي ذلك قال الله تعالى في النص بعد الأوامر السابقة:

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .

وبهذا يشير النص إلى أن ثورة الغضب الدافعة إلى الانتقام الشديد الذي يتجاوز فيه المنتقم حدود الحق، هي من نوازغ الشيطان، وذلك لأن نوازغ الشيطان تغذي دوافع الأنفس، وتنفخ في نارها، وتزيد من أوارها.

والاستعاذة بالله تصرف عن الأنفس الشياطين ونوازغها، إذا كانت استعاذة صادقة خالصة، ومتى انصرفت نوازغ الشيطان كانت دوافع الأنفس واقعة بين طرفين متكافئين، هذا يستدنيها إلى الخير، وذلك يستدنيها إلى الشر، ثم تأتي نفحات التوفيق الرب