موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(12- الإنسان مسؤول عن عمله الإرادي ولديه الصفات التي تؤهله لهذه المسؤولية)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(12- الإنسان مسؤول عن عمله الإرادي ولديه الصفات التي تؤهله لهذه المسؤولية)
124 0

الوصف

                                                               الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام

                                                        12- الإنسان مسؤول عن عمله الإرادي ولديه الصفات التي تؤهله لهذه المسؤولية
                                      الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل التاسع: في الإنسان بوجه عام >>

12- الإنسان مسؤول عن عمله الإرادي ولديه الصفات التي تؤهله لهذه المسؤولية

أثبت الله مسؤولية الإنسان عن عمله الإرادي في نصوص كثيرة، وإثبات مسؤوليته يستلزم اتصافه بالصفات التي تجعله مسؤولًا عن أعماله، منها الإرادة الحرة، والقدرة على معرفة الخير والشر ومعرفة التكليف الذي يوجه له.

فلنتدبر دلالات النصوص التي أثبتت مسؤولية الإنسان:

* أولًا:
يقول الله تعالى في سورة (الإسراء 17):

(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)) .

ففي هذا النص يبين الله تبارك وتعالى مسؤولية الإنسان الشخصية عن عمله الذي يكسبه، فكل إنسان مسؤول عند الله عن عمله، وقد ألزمه الله طائره في عنقه.

والمراد من الطائر العمل الذي يكسبه الإنسان بإرادته الحرة؛ لأن الإنسان إذا عمل عملًا طار منه وغدا مسؤولًا عنه، ومتى طار من الإنسان عمله لم يكن باستطاعته أن يرجعه، ولكن تلزم عنقه المسؤولية بعد طيرانه، فيسأل عنه ويحاسب عليه.

ولاقتران الطائر بالعمل قصة تتصل بشيء كان عند العرب، فقد كان العرب إذا أرادوا عملًا من الأعمال، أو أرادوا التوجه لسفر من الأسفار أو نحو ذلك، يتفاءلون بالطيور أو يتشاءمون بها، فيربطون حظوظهم من أعمالهم بسوانح الطيور وبوارحها، فإذا تفاءلوا مضوا، وإذا تشاءموا عدلوا عن قصدهم.

فربما اتجهوا لقصدهم الذي عزمت عليه إرادتهم، فإذا مر بهم طائر من الطيور معترضًا من أيمن اتجاههم إلى أيسره تفاءلوا به، وزعموا أن ما توجهوا له من عمل هو خير، ويسمون هذا الطائر سانحًا؛ لأنه اعترض مقبلًا من جهة اليمين. أما إذا مر بهم طائرٌ معترضًا من أيسر اتجاههم إلى أيمنه فإنهم كانوا يتشاءمون به، ويزعمون أن ما توجهوا له من عمل هو شر، ويسمون هذا الطائر بارحًا؛ لأنه اعترض مقبلًا من جهة اليسار.

فالطيرة عندهم من هذا التشاؤم بالطير البارح، وقد نهى الإسلام عنها كما هو معلوم.

وكان التفاؤل بالسانح من الطيور والتشاؤم بالبارح منها عمل عرب الحجاز، أما عرب نجد فكانوا على العكس، يتفاءلون بالبارح من الطيور لأنه يقابلهم بيمينه، ويتشاءمون بالسانح لأنه يقابلهم بيساره، وهذا ظاهر في شعر أكثر شعرائهم.

فالعرب بهذه الخرافة التي كانت تسيطر عليهم قبل الإسلام، كأنهم قد جعلوا الخير والشر مرتبطين بسوانح الطيور وبوارحها، حتى صاروا يطلقون على العمل الذي يتفاءلون بالخير من ورائه طائرًا ميمونًا، وعلى العمل الذي يتشاءمون به طائرًا مشؤومًا، كأن الطير هو المسؤول عن أعمال الخير وعن أعمال الشر التي يفعلونها بإراداتهم.

إنهم يعطلون بهذه الخرافة الاعتقادية ما وهبهم الله من قدرة فكرية يتدبرون بها الأمور، وفق نظم الأسباب والمسببات، ويعطلون مسؤولية إرادتهم الحرة التي تصدر أوامرها لتنفيذ الأعمال، ومن أجل ذلك ألغى الإسلام هذه الخرافة، وأعلن أن لا طيرة، وأن الطيرة على من تطير، وأن الشؤم على من تشاءم، أما الفأل فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه كالتفاؤل بالأسماء الحسنة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره التشاؤم؛ لأن التفاؤل يساعد النفوس على مضاعفة الجهد للمضي في العمل الذي عزمت عليه الإرادة، والإسلام يكره في الأعمال التردد والتخاذل، ولذلك قال الله لرسوله:

(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) .

أما التشاؤم فإنه يطفئ جذوة النشاط إلى العمل، ويبطئ الهمة، ويورث التردد والتخاذل، وهذه الأمور توصل إلى النتائج غير المحبوبة في أكثر أحوالها، فيكون الشؤم على من تشاءم نتيجة لعمله.

ولما ألغى الإسلام الخرافة التي كانت شائعة عند أهل الجاهلية، أعلن أن مسؤولية الإنسان ملازمة له، فهي في عنقه الذي تتردد فيه أنفاس حياته، فطائره المسؤول ليس السانح ولا البارح، وإنما هو في عنقه، ملازم لإرادته الحرة ملازمة حياته له.

فإطلاق كلمة الطائر في هذا النص إطلاق مجازي عن العمل المتعلق بمناط المسؤولية في الإنسان، ومناط المسؤولية في الإنسان إرادته الحرة الواعية.

فالإنسان بهذا الإعلان القرآني هو المسؤول عن أعمال الخير وأعمال الشر التي تصدر عنه وهو حر الإرادة.

قال بعض أهل التفسير: طائر الإنسان عمله. وقال بعضهم: طائر الإنسان حظه.

أما القول الأول فهو الذي وضح لنا رجحانه وهو المتفق مع ما جاء في تتمة الآية. وأما القول الثاني فإذا كان مرادهم من الحظ نصيب الإنسان الذي يناله بعمله، فهو يتضمن إثبات المسؤولية، وإن كان مرادهم من الحظ ما ينفرد به القضاء والقدر دون وساطة عمل الإنسان، فما جاء في تتمة الآية لا يؤيد هذا الاتجاه، وهو قوله تعالى: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ) ثم قوله تعالى بعد ذلك: (اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) .

ومهما كان فهمنا للنص فإن دلالته العامة تثبت مسؤولية الإنسان عن أعماله الإرادية في الحياة، وأن مناط مسؤوليته أمر داخل فيه وملازم له ملازمة حياته له، ولما كانت مسؤوليته تستدعي سؤاله ومحاسبته يوم القيامة –وهذا يستدعي تسجيل أعماله الإرادية التي يعملها في حياته، لتكون محاسبته على أساس سجل أعماله- قال الله تعالى عقب إعلان المسؤولية: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)) .

وإعلانًا عن مسؤولية الإنسان الشخصية عن أعماله الإرادية، وأن أحدًا لا يتحمل وزر غيره إلا أن يكون له فيه كسب، قال الله تعالى في النص: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) أي لا تحمل نفس من شأنها أن تحمل الوزر بعملها وزر نفس أخرى.

وقوله تعالى: (اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) يستدعي تساؤلًا عن الأسس التي يحاسب بها الإنسان نفسه إذا هو نظر في كتاب عمله؟

ويظهر أن الإنسان إذا نظر في قانون الجزاء الرباني العادل، ونظر في كتاب أعماله التي قدمها في الحياة الدنيا، استطاع أن يحسب بدقة ما له وما عليه، فما كان قد نهاه الله عنه وعمله مخالفة لنهي الله عرف أنه مؤاخذ به، وأنه يستحق عليه العقاب بالعدل، وما كان قد عمله أو تركه طاعة لله، عرف أنه مثاب عليه بفضل الله، الحسنة بعشر أمثالها في أدنى الجزاء.

وعلى هذا الأساس يستطيع الإنسان محاسبة نفسه على كل صغيرة وكبيرة مسجلة في كتاب عمله، وما يراه مسجلًا في كتاب عمله يعلمه من نفسه تمامًا، ويذكره كما لو كان قد فعله منذ ساعته.

ولما كان الإنسان مسؤولًا مسؤولية شخصية عن عمله، وهذه المسؤولية تجعله أمام طريقين:

(أ) أحدهما طريق سعادة.

(ب) والآخر طريق شقاء.

فإذا سلك في طريق السعادة كان من السعداء، وإذا سلك في طريق الشقاء كان من الأشقياء، وطريق السعادة طريق هداية، وطريق الشقاء طريق ضلال.

لما كان الأمر كذلك أعلن النص أن من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، وأن من ضل فإنما يضل عليها، فقال تعالى: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) .

أي يهتدي لمصلحة نفسه ونجاتها وسعادتها، ويضل جانيًا على نفسه جالبًا لها الخسران والشقاء، بما يستحقه من عقاب الله بسبب أعماله السيئة.

أما قول الله تعالى في النص: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فهو يعلن مبدأً أساسيًّا من مبادئ قانون الجزاء الرباني، وهو أن كل نفس من شأنها أن تكون مسؤولة تحمل أوزارًا، لا يمكن في قانون العدل الرباني أن تحمل أوزارًا لغيرها ليس لها فيها كسب، وإن كان ذا قربى، فلا يحمل أبٌ من أوزار ابنه شيئًا، ولا يحمل ابن من أوزار أبيه شيئًا، ولا يحمل قرين من أوزار قرينه، ولا حميم من أوزار حميمه، إلا أن يكون له كسب فيها، فيحمل إذن أوزار نفسه بهذا الكسب.

والأوزار في اللغة هي الأحمال الثقيلة، ولما كان الذنب الذي يفعله الإنسان يشبه الحمل الثقيل فقد أطلق العرب على الذنب وزرًا.

ويقال لغة لمن حمل حملًا ثقيلًا أو أذنب ذنبًا كبيرًا: وزر، يزر، فهو وازر، وهي وازرة.

وهنا نقول: إن (وازرة) في النص صفة لموصوف محذوف تقديره: ولا تزر نفس وازرة وزر نفسٍ أخرى.

وأما قول الله تعالى في النص: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) فهو يعلن عن مبدأٍ آخر من مبادئ العقاب الرباني، وهو أن الله تعالى لا يعذب عباده على ذنوبهم مع ربهم في الحياة الدنيا حتى يرسل لهم رسولًا يبين لهم طريق هدايتهم وسبل غوايتهم.

وهكذا بين هذا النص مسؤولية الإنسان الشخصية عن أعماله الإرادية، وبين أن التعذيب على الأوزار شرطه الإعلام عن طريق إرسال الرسول المبلغ المبشر المنذر.

ونصوص المسؤولية المؤكدة لمضمون هذا النص كثيرة، وكلها تثبت أن الإنسان مسؤول عند ربه عما يعمل بإرادته الحرة من أعمال.

فمنها النصوص التالية:

يقول الله تعالى في سورة (الصافات 37):

(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْؤُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ (25)) .

ويقول الله تعالى في سورة (الأنبياء 21):

(فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)) .