موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(أحوال الناس تجاه النعم والمصائب)
الوصف
الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام
أحوال الناس تجاه النعم والمصائب
الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل التاسع: في الإنسان بوجه عام >>
أحوال الناس تجاه النعم والمصائب
أولًا- فمن الأحوال:
1- أن ينشأ الإنسان في فيضٍ من النعم الربانية عليه، ومن ذلك الصحة، وكثر المال، وهدوء البال، والأمن، وتيسير تحقيق المطالب في الحياة الدنيا، وهذا في حكمة الله لون من ألوان الامتحان الذي يمتحن الله به عباده، ليعلم من يشكره ومن يكفره.
2- أن ينشأ الإنسان في غير الحالة السابقة، وذلك بأن تقضي حكمة الله بامتحانه وتربيته بالمكاره، في الرزق، أو في الصحة، أو في تحقيق غير ذلك من مطالب الحياة، ويمتحن الله عباده بهذا اللون من ألوان الامتحان ليعلم من يصبر وهو مؤمن بحكمة الله، ومن يضجر ويتذمر أو يكفر ويطعن في حكمة الله وعدله، أو ينكر وجود الله.
فهاتان الحالتان قد يتعرض الإنسان لإحداهما في فترة نشأته، ووصف الإنسان الغالب تجاههما يختلف باختلاف عقيدته وخلقه وصفته النفسية.
فإذا كان مؤمنًا بوجود رب خالق يقسم المقادير، فإن أول ما يخطر له ويقرره إذا كان ناشئًا في فيض من النعم، هو أن الله تعالى رآه مستحقًّا للتكريم وأهلًا لأن يكون مفضلًا بالعطاء، فأكرمه وفضله. وإن أول ما يخطر له ويقرره إذا كان ناشئًا في المكاره، هو أن الله تعالى قد أهانه، ولم يعطه ما يستحقه، مع أن الأمر في الحالتين ليس كذلك، فما تصوره كل منهما مرفوض مردود، إذ ليس هذا تفضيلًا ولا تكريمًا في حكمة الله، وليس هذا إهانة ولا تحقيرًا في حكمة الله، بل اقتضت حكمة الله العليمة بطبيعة كلٍ منهما أن يمتحن هذا بفيض النعم، وأن يمتحن هذا بالتضييق وبالمكاره.
من أجل ذلك رد الله تصور هذا وتصور هذا بكلمة زاجرة، فقال لهما في سورة (الفجر 89): (كَلاَّ) بعد أن عرض أقوالهما إذ قال تعالى:
(فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلاَّ .... (17)) .
أي ليس الغرض من التوسعة على الأول إكرامه، وليس الغرض من التضييق على الآخر إهانته، وإنما هي ألوان امتحان، فالأول اقتضت الحكمة ابتلاءه بالتوسعة، والآخر اقتضت الحكمة ابتلاءه بالتضييق.
وفي هذا تصحيح لتصورات المؤمن حول مقادير ربه، حتى يكون على بصيرة من حكمة الله، وما يجب عليه من سلوك قلبي ونفسي وعملي تجاه ذلك.
وإذا كان لا يؤمن بوجود رب خالق، أو لا يضع هذا الموضوع في تصوراته، فإنه إذا أنعم الله عليه انطلق في متاع الحياة الدنيا، واستغرق في لذاتها، وأعرض عن التفكير في المنعم، ونأى بجانبه عن ملاحظة كل دليل يدل عليه، أو نأى بجانبه عن عبادته وطاعته، واتبع شيطانه وهواه. وإذا نزل به ما يكره من مصائب يراها شرًا، استبد به اليأس والقنوط، فقعد كئيبًا حزينًا يجتر آلامه، ويمضغ أحزانه، أو كان يؤوسًا من حياته ومستقبله، فلجأ إلى الانتحار تخلصًا مما نزل به من مصائب ومكاره، فهو إما مسرفٌ طاغ أو يؤوس قنوط. وهو في كلتا الحالتين أعمى البصيرة كفور.
وهذا القسم من الناس ربما كان هو المراد من قول الله تعالى في سورة (الإسراء 17):
(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلُّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (84)) .
كل يعمل على شاكلته: أي كل يعمل على طريقته وقصده ومذهبه في الحياة، وما دام مذهب هذا الإنسان مذهبًا ماديًّا دنيويًّا، فلا بد أن تكون طريقة عمله في الحياة طريق الاستمتاع باللذات إلى أقصى الحدود، إذا امتحنه الله بفيوض النعم، وطريق اليأس والقنوط والفرار من الحياة كلها إذا امتحنه الله بالمصائب والآلام التي يراها في تقديره شرًا، وتكون هذه حالته سواء أكان ذلك منذ نشأته، أو جاءه بعد ذلك في أطوار حياته.
ثانيًا- ومن الأحوال:
أن يكون الإنسان في النعمة الكثيرة، ثم تنزع منه ويذوق طعم الضراء. أو يكون في المصيبة قد مسته فيها الضراء، ثم تزال عنه المصيبة ويذوق طعم النعماء.
فهاتان الحالتان من الأحوال التي قد يتعرض الإنسان لإحداهما أو كليهما في حياته، ووصف الإنسان الغالب تجاههما يختلف باختلاف عقيدته وخلقه وصفته النفسية.
1- فإذا لم يكن من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، أو لا تخطر قضية الإيمان بالله ومقاديره الحكيمة على فكره، فإنه إذا كان في النعمة ثم نزعت منه أصابه اليأس والقنوط، واستبد به الضجر من الحياة، ولم يتنبه إلى أن المصيبة من شأنها أن تذكره بربه، وتشعره بوجوده، حتى يلتمس منه دفع الضر ورفعه، بل يظل كفورًا بربه جاحدًا لمقاديره غير ناظر إلى حكمته تعالى، فيجتر أحزانه أو ينتحر وإذا كان في المصيبة ثم نزعت منه فذاق طعم النعماء، تمادى في الاستمتاع باللذات والاستغراق في بحر الشهوات، وغدا فرحًا بما لديه مستكبرًا على أقرانه، فخورًا على الناس بما عنده.
وفي وصف هذا الصنف من الناس أمام هاتين الحالتين يقول الله تعالى في سورة (هود 11):
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)) .
ففي حالة نزع النعمة عنه يغدو يؤوسًا من حياته متضجرًا من وجوده، كفورًا بربه، لا يلاحظ إلا الأسباب المادية الظاهرة، لذلك فهو يجتر آلامه وأحزانه، ولا يرتقب من الله فرجًا ولا مخرجًا؛ لأنه لا يؤمن به، أو يتخلص من الحياة بالانتحار. وفي حالة تحول الحال من الضراء إلى النعماء يصيبه البطر والفرح وينسى ما كان فيه، ويتصور أن السيئات التي كان فيها قد ذهبت عنه إلى غير رجعة، وأنه قد استطاع أن يصل إلى الأسباب التي يحصل بها نعماءه، ولا يقع في تصوره أن الله تعالى قد ابتلاه أولًا بالضراء، ثم ابتلاه الآن بالنعماء، ليرى في الحالتين بعض آيات ربه فيؤمن به ويعبده حق عبادته.
وينجو من داء هذا الصنف من الناس الذين صبروا إيمانًا بربهم، وعملوا الصالحات ابتغاء مرضاته، وأولئك لهم مغفرةٌ وأجرٌ كبير. وصبرهم له وجهان: ففي حالة النعمة يصبرون عن معصية الله، وفي حالة المصيبة يصبرون على تحمل مقادير الله، ويعلمون أن ما نزل بهم مقرون بحكمة فيها مصلحة لهم لو عرفوا بواطن الأمور وتدبروا عواقبها.
2- وإذا كان يؤمن بربٍ خالق بيده تصريف المقادير، وهو يستجيب دعاء من دعاه لتحقيق مطالب الحياة الدنيا، إلا أنه لا يؤمن باليوم الآخر ولا بما أعد الله فيه من جزاء، أو لا تخطر قضية الإيمان باليوم الآخر على فكره، فإنه كثير الطلب ملحاح في الدعاء لنيل مطالبه ومحابه من الحياة الدنيا، فهو لا يسأم من دعاء الخير، والاستزادة من زينة الحياة الدنيا. وإذا مسه شر كان صاحب دعاء عريض، مستعرضٍ بالاعتراض على الله في مقاديره التي لم تتفق مع ما يحب لنفسه من الخير، أو كان يؤوسًا قنوطًا، إما عن نقضٍ لإيمانه بالرب الخالق، أو قنوط من استجابته له.
ولئن أذاقه الله نعمةً من رحمته من بعد ضراء مسته، فإن سلوكه النفسي والقلبي والعملي تعبر عنه أقوال ثلاثة يقولها، مع إعراضه عن ربه المنعم وما أوجب عليه، وبعده عن فعل الخير واستكباره.
القول الأول:
ما جاءني من خير هو لي أساسًا، وقد كان مصروفًا عني، فأنا أستحقه استحقاقًا ذاتيًّا. ولا يحمد الله عليه، ولا يذكر أن الله قد أنعم به عليه تفضلًا، ولا يرى أن عليه واجبًا تجاه ربه مقابل نعمه التي أنعم بها عليه.
القول الثاني:
ما أظن الساعة قائمة، وهو يعبر في هذا عن عقيدته القائمة على إنكار اليوم الآخر.
القول الثالث:
يقوله مستندًا إلى افتراض أن يكون اليوم الآخر حقيقة واقعة، ويرى أن له عند ربه للحسنى لو رجع إلى ربه، وذلك بالاستحقاق الذاتي، ويقيس حال الآخرة على تصوره الفاسد في تعليل ما جاءه من خير في الحياة الدنيا، بأنه قد جاءه بناء على استحقاقه الذاتي له.
فطمع هذا الصنف بامتلاك ألوان زينة الحياة الدنيا، والاستمتاع بألوان متعها لا ينتهي، ويستخدم دعاءه لربه من أجل نيل ما يحب من هذه الحياة الدنيا، وما يأتيه منها يرى أنه صاحب حق فيه، فإذا نزل به الشر كان ذا دعاءٍ عريض، أو كان يؤوسًا قنوطًا، وهذا اليأس المفرط يدفع به إلى الانتحار المعنوي أو الانتحار المادي الفعلي.
وفي هذا الصنف من الناس يقول الله تعالى في سورة (فصلت 41):
(لاَ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)) .
فهو في النعمة ناء مستكبر منكر للجزاء واليوم الآخر، وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض، ملحاح متضجر متذمر على ربه، فإذا لم يستجب الله له فيؤوس قنوط.
وحول حمى هذا الصنف من الناس يقف بعض ضعفاء الإيمان، ولو كانوا مؤمنين باليوم الآخر مع إيمانهم بالرب الخالق الرازق، والواحد منهم إذا مسه الضر دعا ربه، فإذا خوله الله منه نعمة لم ير فضل الله عليه فيها، وإنما يرى أن علمه بالأسباب وتعاطيه لها هو الذي جلب له ما أصاب من نعمة، قال الله تعالى في سورة (الزمر 39):
(فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّن...)