موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(10- الإنسان عجول)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(10- الإنسان عجول)
199 0

الوصف

                                                              الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام

                                                                     10- الإنسان عجول
                                               الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل التاسع: في الإنسان بوجه عام >>

10- الإنسان عجول

ووصف الله الإنسان بأنه عجول، وبأنه خلق من عجل، فقال الله تعالى في سورة (الإسراء 17):

(وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً (11)) .

وقال تعالى في سورة (الأنبياء 21):

(خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ (37)) .

العجلة تقع في طرف يقابله بعدٌ آخر يقع فيه الإهمال والتخلف، والخير هو في مكان وسط بين البعدين؛ فالقسمة ثلاثية لا ثنائية.

وطلب أمرٍ ما أو القيام بعمل ما، إن كان بمسابقة الزمن الملائم له –والذي يكون فيه أكمل وأفضل- فتلك هي العجلة، وإن كان بالتأخر عن الزمن الملائم له فذلك هو الإهمال والتخلف، وإن كان بموافقة الزمن الملائم في المطالب والأعمال فتلك هي الحكمة المطلوبة (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) .

فليست كل سرعة عجلة، إذ من الأمور ما يتطلب السرعة، وإلا فات أوانها وليس كل بطءٍ أناة محمودة، فلربما كانت الحكمة المحمودة في السرعة، ولربما كان البطء تخلفًا مذمومًا.

إن الحكمة التي يأمر بها العقل الراجح، تكون بالقيام بالأعمال في أوقاتها وأزمانها التي تضمن بها المصلحة الفضلى.

لكن الإنسان مفطور على حب استعجال الأشياء قبل أوانها، فهو مخلوق عجول، يبادر الأشياء قبل مواقيتها، ويسارع إليها قبل أوانها، ويحب العاجلة وإن كانت قليلة حقيرة، ويفضلها على الآجلة وإن كانت كثيرة جليلة، فكأن هذا الإنسان مخلوق من مادة العجل ( خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) .

وليست نسبة العجلة بين الناس واحدة، إنهم متفاوتون في هذا، فبعضهم أكثر عجلة من بعض، إلا أن دوافعهم النفسية جميعًا تجعلهم عجولين، يستعجلون تحقيق مطالبهم قبل أوانها.

إن كل فرد من الناس يحب أن تكون رغائبه رهن خواطر، فإذا طلبت نفسه شيئًا أراد حصوله دون أناة ولا انتظار، بيد أن الإنسان العاقل المجرب قوي الإرادة يستطيع أن يملك عجلته الفطرية بقوة إرادته وراجح عقله وحكمته.

وليس أصل فطرة العجلة من النقائص في تكوين الإنسان الفطري؛ لأنها تمثل في الإنسان عنصرًا مهمًا من حوافز الجد والعمل، ولكنها تغدو من النقائص حين يسيء الإنسان إدارتها، أو يهملها، إذ المفروض فيها أن تكون خاضعة لعقل الإنسان وإرادته، فإذا انعكس الأمر فصارت هي المسيطرة على العقل والإرادة، اختل توازن الإنسان وجانب سبيل الحكمة في الأمور.

ولقد نحمد في الإنسان ميله إلى تحقيق الأمور بسرعة، إذا استطاع أن يحسن إدارة فطرته هذه، ويحسن توجيهها لما فيه المصلحة الفضلى.

والعجلة في الإنسان ظاهرة ناتجة عن اجتماع عدة عوامل لديه:

العامل الأول:
توجه دافع ملح من دوافع النفس، لتحقيق مطلب من مطالبها أو رغيبة من رغائبها.

العامل الثاني:
عدم التبصر بالأمور تبصرًا شاملًا، وتحكيم البديهة الفكرية التي تتأثر كثيرًا بدوافع النفس.

العامل الثالث:
ضعف الإرادة وضمورها أمام قوة الدوافع النفسية.

فمن اجتماع هذه الأمور في الإنسان تظهر العجلة في تصرفاته، فهي في الإنسان ثمرة غير حسنة من ثمرات اتباع النفس والهوى.

وحب الإنسان للعاجلة –وهي الدنيا- وتركه للآخرة، هو أيضًا ثمرة غير حسنة من ثمرات اتباع الهوى، قال الله تعالى في سورة (القيامة 75):

(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الآَخِرَةَ (21)) .

وتظهر العجلة عند الإنسان في كل أمرٍ من أموره التي تندفع إليها نفسه برغبة ملحة، حتى في دعائه ربه. إن قصر نظره وعدم تبصره بعواقب الأمور يجعلانه يتصور بعض الأشياء خيرًا له، فيدعو الله بها، ظانًا أنها خير، مع أنها في حقيقة حالها شر له، فهو يدعو على نفسه بالشر حينما يدعو دعاءه ظانًا أنه يدعو لها بالخير، هذا ما نفهمه من قول الله تعالى في سورة (الإسراء 17):

(وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً (11)).

إن الإنسان قد يكره ما هو خير له، فيطلب صرفه عن نفسه، وقد يحب ما هو شرٌ له، فيطلبه لنفسه ويلح بطلبه، وهو في كلا الأمرين جاهل قصير النظر، قليل الأناة عجول، قال الله تعالى في سورة (البقرة 2):

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (216)) .

فمن الخير للإنسان إذا طلب من ربه أمرًا من أمور الدنيا أن يجعل طلبه مقرونًا بقوله: "إن كان فيه خير لي في ديني ودنياي وآخرتي" أو بعبارةٍ نحوها.

من ظواهر العجلة عند الإنسان:

1- بعض الناس تشتد رغبتهم النفسية في أن يكونوا من ذوي الثراء الواسع، وتلح في نفوسهم هذه الرغبة إلحاحًا شديدًا، ينتج عنه اندفاع إرادي عنيف، مصحوب باضطراب وقلق وطموح.

وتقف في وجوههم سنن الكون ونظمه الثابتة، أو تقف في وجوههم شرائع الحق والعدل، فيحاولون اختراقها وتجاوزها برعونة وطيش، أو بظلم وعدوان، فيتعثرون ويجرون لأنفسهم مصائب كثيرة بأوهامهم.

فمنهم من يبدد حياته بالأوهام والأحلام، ولا يحقق لنفسه ما كان يصبو إليه، ومنهم من يتحول حاله حتى يمسي مجرمًا شريرًا.

لقد جنى على هؤلاء استعجالهم الأمور، إذ جعلهم استعجالهم يطلبون رغائبهم من غير طرقها، ويتخذون لها غير أسبابها.

إن إلحاح الرغبة، والاندفاع وراء الهوى بعجلة رعناء، يعمي البصيرة، فيجعل الإنسان يسير في حياته على غير هدى، كالذي يسير في الظلمات في أرض وعرة مليئة بالعقبات والعثرات.

2- وبعض الطامعين يستعجلون ميراثًا تتحلب أشداقهم إليه، ويطول عليهم أمد انتظار موت مورثهم، كأن تركته المرتقبة حقهم المسلوب، أو مالهم المغصوب، فتلتهب في نفوسهم المطامع، ويندفعون بعجلة يرافقها تكالب خبيث، ثم لا يجدون طريقًا لتحقيق مطامعهم إلا الجريمة النكراء، فيحتالون للخلاص من حياة مورثهم بغية حيازة الميراث الذي يطمعون به.

إن عجلتهم هذه قد تدفعهم إلى المهالك، وإلى سخط الله ونقمته، وهذا ما يحصل في معظم الأحيان عند ذوي الطمع العجولين، ما لم يحمهم العقل الرشيد، ومخافة الله، والتربية الفضلى.

3- وبعض الطلبة يتعجلون الحصول على الشهادة، قبل الأوان المناسب الملائم لاستعداد الإنسان وكفاءته في تحصيل المعارف والعلوم، فيحرمون أنفسهم بذلك من خير كثير، ويسلكون مسالك شائنة للأمانة، مسيئة للمعرفة الإنسانية.

وكم يتعثرون في دراستهم، ويتخلفون بسبب تعجلهم، وكثير منهم يناله الفشل المتتابع، ويضيع من عمره سنوات عديدة، في حين أنه كان يريد مسابقة الزمن بعام أو عامين، وبعضهم يخسر تحصيل الشهادة التي كان يصبو إليها خسارة كلية. ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.

4- وبعض طلاب الحكم والسلطان يرمون شعوبهم بويلات ومصائب كثيرة، بسبب استعجالهم الأمور على غير بصيرة، وربما يسوقون للبشرية كوارث حروب عالمية طاحنة، تباد فيها الملايين من الناس، وتهدم فيها مدنٌ، وقرى كثيرة وتتأخر فيها حضارة الأمم قرونًا.

5- وهكذا نلاحظ في المجتمعات الإنسانية رغبات كثيرة في الأفراد والجماعات، وهذه الرغبات تلح في داخلهم حتى تجعلهم يستعجلون الأمور قبل أوانها، وبذلك تخونهم النتائج التي اندفعت نفوسهم لتحقيقها.

ومن المشاهد المستنكرة التي يمارسها المتعجلون سرعتهم الجنونية وهم يسوقون سياراتهم، دون أن يحسبوا حسابًا للمخاطر الكثيرة التي تكثر احتمالاتها مع السرعة، بدافع العجلة الرعناء.

وما أكثر ما نشاهد من حوادث مؤلمة مزعجة كان سببها العجلة الحمقاء في قيادة السيارات، فكم من حوادث دهس وحوادث اصطدام وحوادث جنوح عن الطريق، تحدث في كل يوم بسبب عجلة الإنسان.

ويحتج بعض المتعجلين الذين يعرضون أنفسهم وغيرهم للمخاطر والأهوال، بأنهم لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، ليبرروا بذلك تعجلهم الذي يتبعون فيه أهواءهم. وهي حجة يضعونها في غير مواضعها، ثم لا يقبلون بها حينما تأتي على خلاف أهواءهم، وينسون أن العجلة المحفوفة بالمخاطر عجلة محرمة شرعًا، فالمتعجل الذي يسرع في سيارته فيوقع نفسه في الخطر، أو يوقع غيره في الخطر، إنسان جانٍ أو مجرم، وهو مسؤول شرعًا عن جنايته أو جريمته. وليس ينفعه عند الله أن يقول: لقد أسرعت معتمدًا على أنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، إذ يقال له: إن الله قد نهاك في شريعته للناس عن كل تهورٍ يفضي بك إلى التهلكة.