موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(9- الإنسان هلوع)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(9- الإنسان هلوع)
196 0

الوصف

                                                              الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام

                                                                         9- الإنسان هلوع
                                              الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل التاسع: في الإنسان بوجه عام >>

9- الإنسان هلوع

وصف الله الإنسان بأنه خلق هلوعًا، وفسر القرآن معنى الهلع الموجود في فطرة الإنسان، بأنه إذا مسه الشر كان جزوعًا، وإذا مسه الخير كان منوعًا، واستثنى من هذا الوصف من كان مؤمنًا بالله وبما جاء من عنده على لسان رسله، عابدًا لربه، ذا صلة مستمرة بمراقبته، مبتعدًا عما حرم، قائمًا بما فرض عليه، فقال الله تعالى في سورة (المعارج 70):

(إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (35)) .

فهذا النص يقرر أن الإنسان خلق هلوعًا، إذا مسه الشر كان جزوعًا، أي كثير الجزع، وإذا مسه الخير كان منوعًا، أي كثير المنع ممسكًا قتورًا، من بخله وشح نفسه، باستثناء الذين وصفهم الله بصفات تفصيلية متعددة، هي صفات المؤمن صادق الإيمان، والمسلم صحيح الإسلام، القائم بما فرض الله عليه، والمجتنب لما حرم.

جذور الهلع داخل النفس الإنسانية:

ولدى تحليل طيوف النفس لمعرفة جذور الهلع في داخلها، نستطيع أن نلاحظ أن الإنسان مفطور على حب ذاته، وحب ما يلذ له ويمتعه.

وحب الإنسان لذاته يتفرع عنه حب البقاء، وحب السلامة، وحب الاستمتاع بما يستلذه أو يجد فيه متعة نفسه، أو تلبية غريزته، أو قضاء حاجته أو شهوته، ويتفرع عنه أيضًا حب الأشياء التي تخدم شيئًا مما يحب.

وحين يعلم الإنسان أن ما يحب مهدد بالمخاطر من حوله يصيبه الحذر الشديد والخوف، وحين يمسه الضر في شيءٍ من ذلك يراه شرًا، ويتفجر فيه الألم بسبب ذلك، وحينئذ يصطرع في ذاته ما يحب لنفسه وما هو نازل به مما يكره، ثم يكون التعبير عن هذا الصراع العنيف في داخل ذاته بالجزع وإعلان التضجر مما هو فيه، ويظهر ذلك في الاضطراب والقلق والصياح الدال على حالة النفس، والبكاء المرير، وحركات الأعضاء دون عقل ولا اتزان، كالضرب واللطم والتمزيق والتكسير ونحو ذلك.

إلا أن يتخذ لنفسه وقاية من ذلك، وهذه الوقاية تأتيه عن طريق مفاهيمه وعقائده وجملة تصوراته للوجود، وتطلعاته للمستقبل وآماله فيه، مقرونة بتربية نفسية على الصبر وتحمل الألم وألوان خاصة من السلوك الدائم، وهو ما جاء به الإسلام في عقائده وعباداته وشرائعه وأخلاقه وسائر وصاياه، وكذلك تربيته العملية.

من هذا التحليل تبينت لنا جذور الجزع، أما جذور كون الإنسان منوعًا، فترجع فيما يظهر إلى أن الإنسان حينما يمتلك الأشياء التي يرى أنها تخدم ما يحب لنفسه، فلا بد أن يكون حريصًا عليها، ومع شدة الحرص يأتي الإمساك والمنع الشديد، وبذلك يكون الإنسان منوعًا.

وقد سبق في وصف الإنسان بأنه قتور مزيد من تفصيل هذه الجذور داخل النفس الإنسانية.

والإنسان إذا ترك نفسه دون وقاية ينشأ فيه هذا الوصف ويستقر، فيكون إذا مسه الخير منوعًا، أما إذا اتخذ لنفسه وقاية من ذلك فإن النتيجة تختلف، وهذه الوقاية تأتيه عن طريق مفاهيمه وعقائده وجملة تصوراته للوجود، وتطلعاته للمستقبل وآماله فيه، مقرونة بتربية نفسية على البذل والعطاء، وترقب العوض، وما هو خير وأفضل عند الله تبارك وتعالى، ألوان خاصة من السلوك الدائم، وهو ما جاء به الإسلام في عقائده وعباداته وشرائعه وأخلاقه وسائر وصاياه، وكذلك تربيته العملية.

ما يقي الإنسان من الهلع:

ولقد فصل القرآن العناصر التي تقي الإنسان من الهلع تفصيلًا كاملًا، وبعض هذه العناصر مصرح به لفظًا، وبعضها يفهم عن طريق اللزوم الفكري والاستنتاج الذهني، وفيما يلي بيان لهذه العناصر:

العنصر الأول:
حسن الصلة بالله والتزام مراقبته، وذلك بالمداومة على الصلاة المستوفية لشروطها الفكرية والقلبية والنفسية والروحية والجسدية، وهو ما دل عليه قول الله تعالى في الاستثناء:

(إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ (23)) .

وهذا العنصر المصرح به يستلزم عنصرًا غير مصرح به، ولكنه لا يتم إلا به، ألا وهو عنصر الإيمان بالله وبصفاته وأسمائه الحسنى، والإيمان بحكمته وقضائه وقدره، والإيمان بعدله وفضله وحسن ثوابه لعباده الصالحين.

العنصر الثاني:
حسن تأدية الحقوق المالية لأربابها، وقيام الإنسان بما يجب عليه تجاه الفقراء والمساكين وذوي الحاجات من المسلمين، وهذه الصفة تشعره بواجباته نحو الجماعة، وهو ما دل عليه في النص قول الله تعالى:

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)) .

وهذا العنصر المصرح به يستلزم عنصرًا غير مصرح به، ألا وهو كفهم عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن كل كسب حرام؛ لأن من يؤدي الحقوق التي فرضها الله في ماله عن إيمان بالله وطاعة له، لا يعتدي على ما ليس له فيه حقٌ عند كسب المال، بهذا تقضي منطقية السلوك المنسجم بعضه مع بعض.

العنصر الثالث:
التصديق بيوم الدين وما أعد الله فيه من جزاء، والخوف من عذاب الله يوم القيامة جزاءً للإنسان على ما يجني من سيئات في الحياة الدنيا، وهو ما دل عليه قول الله تعالى في النص:

(وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)) .

العنصر الرابع: 

حفظ الفروج من المعاصي والمحرمات التي نهى الله عنها، وهو ما دل عليه قول الله تعالى في النص:

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)) .

العنصر الخامس:
رعاية الأمانات والعهود والوفاء بها، والبعد عن كل خيانة في الأمانة أو نكثٍ في العهد، وهو ما دل عليه قول الله تعالى في النص:

(وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)) .

العنصر السادس:
القيام بالشهادات على الوجه الذي أمر به الله من صدق وتأدية للشهادة على وجهها، وبعد عن كل كتمان مضيع للحقوق، وهو ما دل عليه قول الله تعالى في النص:

(وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ (33)) .

والعنصر الأخير:
تكرير للعنصر الأول، وهو المحافظة على الصلاة التي تصل العبد بربه، وفي ذلك تسوير لسلوك الإنسان كله بهذه الصلة بربه، بدءًا واستمرارًا وختامًا، وهو ما دل عليه قول الله تعالى في آخر النص:

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)) .

ثم أبان الله تعالى عاقبة هؤلاء الذين استثناهم من عموم الإنسان الهلوع، فقال تعالى:

(أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (35)) .

فمن استجمع هذه العناصر استطاع أن يتخلص من الهلع الذي يبعده عن كماله الإنساني، ويبعده عما خلق لأجله.