موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(7- إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)
الوصف
الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام
7- إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى
الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل التاسع: في الإنسان بوجه عام >>
7- إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى
من ظواهر السلوك الإنساني التي قررها القرآن أنه يطغى إذا رأى أنه استغنى، وهذه الظاهرة مشاهدة في الواقع الإنساني بنسبة غالبة جدًّا، قال الله تعالى في سورة (العلق 96):
(كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآَهُ اسْتَغْنَى (7)) .
وهذا حكم على الجنس، والحكم على الجنس لا يعني استغراق جميع أفراده.
ليطغى: الطغيان في اللغة هو تجاوز حدود الحق والعدل، أو الخير والمصلحة والمنفعة، أو مستوى الأمر الحكيم.
تقول: طغى البحر، إذا هاجت أمواجه. وطغى الماء، إذا ارتفع وعلا عن حده النافع فأغرق وأتلف.
هذا في الأشياء المادية، ويقال نظير ذلك في الأشياء المعنوية.
فتقول: طغى فرعون، إعرابًا عن ظلمه وعتوه وجبروته.
وتقول: طغى قطاع الطريق، إذا اشتد بأسهم، وكثر ظلمهم وسلبهم للناس، وعظم فسادهم في الأرض.
وتقول: طغى الكافر، إذا أمعن في جحوده لخالقه ومعصيته أوامره ونواهيه.
فدلالة مادة (طغى) متشابهة، سواء أطلقت على الأشياء غير ذات الحياة، أو على الأشياء الحية المريدة، وسواء أطلقت على الأشياء المادية أو المعنوية.
استغنى: الاستغناء هو في الأصل امتلاك الأشياء التي تجعل مالكها غنيًّا بها عن غيره، غير محتاج إلى أحد.
وهذا الاستغناء يكون بالمال، ويكون بالقوة والسلطان، ويكون بالعلم ويكون بالصحة والعافية، ويكون بالأتباع والأنصار، ويكون بامتلاك كل ما يحتاج إليه. ويكون الاستغناء عن الشيء أيضًا بعدم الحاجة إليه أصلًا.
والاستغناء قد يكون حقيقيًّا، وهو لله تعالى وحده، فالله عز وجل هو الغني في ذاته بصفات الكمال، وهو المالك لكل شيء، وهو الغني في ذاته عن كل شيء من دونه.
وقد يكون الاستغناء شعورًا نفسيًّا كاذبًا يراه الإنسان لنفسه، وهو في حقيقة حاله فقير لربه، محتاج إليه في كل مطلب من مطالبه، وقد جعله الله محتاجًا لأشياء كثيرة، والله وحده هو الذي يخلقها ويهيئها له، ضمن سننه في كونه، قال الله تعالى في سورة (فاطر 35):
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (17)) .
فليس خلق الله للناس عن حاجة به إليهم؛ لأنه غنيٌ عنهم وعن عبادتهم له، ولكنه خلقهم بفيض نعمته ورحمته، بيد أنهم هم الفقراء إليه في أصل وجودهم، ثم في إمدادهم بالبقاء وبأسبابه، ثم في كل حاجات نفوسهم وقلوبهم وأفكارهم وأرواحهم وأجسامهم.
فشعور الإنسان بالاستغناء وهو غارق في الفقر إلى الله عز وجل شعور فاسد، مستند إلى وهم كاذب، وهذا الشعور لا يكون لدى المؤمنين الصادقين المراقبين لربهم.
وفي قول الله تعالى: (إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآَهُ اسْتَغْنَى) بيان لصفة غالبة من صفات هذا المخلوق الحي، ذي الفكر والإرادة الحرة، ونوازغ الأهواء والشهوات، ودوافع النفس وغرائزها، والميل الوجداني نحو الخير والحق والفضيلة.
إن هذه الصفة صفة شرطية، إذ ليس كل إنسان طاغيا بالفعل، ولكن من رأى أنه استغنى طغى، ولزوم الطغيان للشعور بالاستغناء في مركب هذا الإنسان يكاد يكون قاعدة مطردة.
فالإنسان الذي لا يوقظه الشعور بفقره الدائم لربه، وحاجته إلى عطائه ومعونته وحمايته في دار الابتلاء وفي دار الجزاء، متى رأى نفسه استغنى بشيء من الأشياء طغى في حدود ذلك الشيء الذي رأى أنه استغنى به.
فإذا رأى أنه استغنى بقوته وأنصاره وجنوده طغى في الناس وظلم، وامتدت مطامعه امتدادًا مفرطًا، ثم لا يجد معارضة في طريقه تمنعه من تلبية مطالب مطامعه إلا سحقها بعنف وقسوة، دون أن يختلج بالرحمة فؤاده، أو تلين بالشفقة نفسه.
وإذا رأى أنه استغنى بماله طغى طغيان تبذير وإتلاف في الترف، وفي إرضاء أهوائه وشهواته، وفي التفاخر وإذلال الناس والاستعلاء عليهم، وفي غير ذلك من مطالب نفسه. وطغى أيضًا طغيان إمساك وبخل في منع المستحقين من الفقراء والمساكين وذوي الحاجات.
وإذا رأى أنه استغنى بعلمه ومعارفه أخذه طغيان الكبر والعجب والصلف، فيحتقر هذا، ويزدري هذا، ويلمز ذاك، ويشنع على آخر، ويكون ديدنه السخرية اللاذعة، والتهكم الدنيء، وهكذا.
أليست هذه الصفة مشاهدة في الناس، إلا في الذين آمنوا وعملوا الصالحات وخافوا مقام ربهم ونهوا نفوسهم عن الهوى؟
إن أحدهم كلما شعر بالاستغناء استعلى واستكبر وطغى، وكلما شعر بالحاجة والافتقار خضع والتزم حدوده.
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنهم لا يطغون مهما عظم سلطانهم، أو كثر مالهم، أو زاد علمهم؛ لأنهم لا يمسهم الغرور، فلا يرون أنهم قد استغنوا، إن إيمانهم بالله واليوم الآخر يشعرهم بالفقر الدائم والحاجة المستمرة إلى الله تعالى. إنهم يعلمون أن كل شيء بيد الله، فهو الذي يعطي، وهو الذي يمنع، وإذا شاء سلب النعمة الموجودة، وإذا شاء جلب النعمة المفقودة، فهم يخافون سلب النعم الحاضرة، ويرجون استدرار النعم الأخرى من فيض كرم الله، وهم يشعرون دائمًا بالحاجة إلى تحصيل الثواب العظيم في الآخرة، ودفع العذاب الأليم عنهم فيها، فشعورهم لا يفارقه الإحساس بالافتقار إلى الله، وهذا هو الذي يجعلهم بعيدين عن الطغيان كل البعد.
فالدواء الذي يمنع عن الإنسان الطغيان هو الإيمان بالله واليوم الآخر، الذي يستبقي في قلبه ونفسه الشعور بالفقر الدائم إلى الله، ويصرف عنه الغرور بالنفس والشعور بالاستغناء.
من أجل ذلك كان الطغيان في الناس كثيره وقليله من صفات الكافرين بالله، ومن صفات ضعفاء الإيمان، ومن صفات الذين غشي على بصيرتهم الإيمانية، حتى غدت مفاهيمهم الإيمانية بعيدة عن ساحة تصوراتهم العاملة، أو غدا إيمانهم مخدرًا أو في سبات عميق، بعوامل الأهواء والشهوات والاستغراق في متاع الحياة الدنيا وزينتها، فساروا في دروب الغرور، وفي ظلمات الفتنة.
والطغيان يدفع بالإنسان إلى الخسران، ويكفيه أن يخسر نفسه وسعادته، ولذلك قال الله تعالى في سورة (العصر 103):
(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) .
ولما كانت صفة الطغيان ملازمة لمن يرى من الناس أنه استغنى، كان من التربية الربانية للناس أن الله تبارك وتعالى قد جعل الإنسان حبيس الحاجة والافتقار، في كل أمر من أموره، حتى يرجع دائمًا إلى ربه، فإذا مسه الغرور فطغى ولو طغيانًا جزئيًّا ضمن حدود شعوره الكاذب بالاستغناء، جاءته العقوبة الربانية المؤدبة، فذل وخضع، ورجع إلى المشاعر الصادقة، فعرف حدود نفسه، وعرف افتقاره الدائم إلى ربه، وأدرك أن لحظات شعوره بالاستغناء قد كانت أوهامًا من وساوس الشيطان، ومن نزغات النفس والهوى.
وما ينطبق من ذلك على الأفراد ينطبق أيضًا على الأمم والشعوب.