موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(6- الإنسان مخلوق ضعيف)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(6- الإنسان مخلوق ضعيف)
213 0

الوصف

                                                              الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام

                                                                       6- الإنسان مخلوق ضعيف
                                           الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل التاسع: في الإنسان بوجه عام >>

6- الإنسان مخلوق ضعيف

وصف الله الإنسان بأنه خلق ضعيفًا، وبأنه خلق من ضعف.

ومن أجل ذلك كلفه الله مراعيا ضعفه، ووضعه موضع المسؤولية والمؤاخذة مع مراعاة الواقع فيه، وفتح له أبواب العفو والغفران والتوبة مراعاةً لهذا الواقع فيه، وخفف عنه التكاليف لذلك.

وضعف الإنسان يشمل الضعف الجسدي، والضعف النفسي، وضعف العزيمة والإرادة، وضعف القدرة على الضبط الدائم تجاه دوافع نفسه وغرائزه وشهواته وأهوائه.

قال الله تعالى في سورة (النساء 4):

(وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)) .

فقد جاء هذا النص في سياق الإذن بالتزوج من الإماء، عند عدم القدرة على التزوج من الحرائر، وذلك تخفيف من الله على المسلمين في شريعته؛ لأن الإنسان خلق ضعيفًا، ومن ضعفه أن إرادته قد لا تستطيع ضبط نفسه تجاه شهوته الثائرة، حينما يكون بحاجة جسدية إلى الزواج.

أما الذين يتبعون الشهوات من أهل الكفر، فيريدون من المسلمين أن يميلوا ميلًا عظيمًا عن شرائع الله، حتى ينطلقوا في ارتكاب ما حرم الله من الزنى وسائر محرمات الفروج.

فالإذن بالزواج من الإماء تخفيف من الله في التشريع على ذوي الحاجات، مراعاة لواقع حال الضعف الإنساني؛ لأن الإنسان خلق ضعيفًا.

وقال الله تعالى في سورة (الأنفال 8):

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَّكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآَنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)) .

ففي هذا النص يبين الله تبارك وتعالى أنه قد خفف عن المسلمين في النسبة العددية التي يجب أن يواجهوا بها عدوهم إذ كان على المؤمنين في أول الأمر أن يصمدوا لعشرة أضعافهم، فخفف الله ذلك عنهم، فجعل وجوب الصمود مرتبطًا بكون العدو ضعف عددهم فما دون ذلك. وهذا التخفيف قد راعى الله فيه واقع حال ضعف جمهور المسلمين، إذ ليسوا جميعًا على مستوى إيمان وقوة كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو كانوا جميعًا كذلك لظلت نسبة قوتهم تزيد على أن المئة منهم تعادل الألف من عدوهم، وبذلك يغلبون أعداءهم. لكن الله قد علم أن فيهم ضعفًا فخفف عنهم إلا أنه لم يسمح لهم بأن يضعفوا عن مواجهة ضعفهم.

وقال الله تعالى في سورة (الروم 30):

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)) .

فهذه الآية تدل على أن خلق الإنسان قد كان من ضعف، أي من عنصر الضعف لا من عنصر القوة، وما خلق من ضعف فلا بد أن تستمر فيه جذور الضعف، ولو منح شيئًا من القوة بعد ذلك. فأصله الضعف والشيء يرجع إلى أصله، وتنزع فيه باستمرار عوامل أصله. والقوة القليلة المحدودة التي يملكها حينما يبلغ مرحلة النضج في تكوينه لا تزيل جذور الضعف في أعماق نفسه، فعناصر الضعف الكثيرة فيه لا تفارقه.

وهذه الآية تصف الأحوال النسبية والأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته، فهو قد خلق من ضعف، ثم جعل الله فيه شيئًا من القوة النسبية التي تتدرج متصاعدة حتى يبلغ كمال نضجه، ثم تدركه سنة الله في خلقه فتتناقص لديه هذه القوة تدريجيًّا، حتى يصل إلى حالة ضعف الشيخوخة والهرم، إذا كان من المعمرين، أو توافيه منيته قبل ذلك.

مظاهر ضعف الإنسان:

وعناصر ضعف الإنسان تظهر في جسده، فرب جرثومة لا يدركها الطرف قتلته أو جعلته طريح الفراش، يصرخ ويصيح، ويتلوى من شدة الألم، ولربما أسرع لنجدته أمهر الأطباء، وجلبوا له ما ملكوا من دواء، فما استطاعوا أن يشفوه مما نزل به من داء، أو يصرفوا عنه ما حل به من بلاء.

ورب جرعة سم قتلته وهو في أوج قوته، ورب إبرة أصابت منه مقتلًا فسقط صريعًا، ورب ريح باردة أقعدته أو قتلته، ورب لفحة سموم فعلت فيه مثل ذلك.

وعناصر ضعف الإنسان تظهر في نفسه وفي سلوكه الإرادي، فرب نظرة حلوة ملكت قلبه وهواه، وأسرته وهو في عنفوان قواه، ورب شهوة أخضعته وأذلته، وفي دار معرة وهوانٍ أحلته.

إذا عض عليه الجوع أو العطش تضجر، وإذا مرت الساعات على غير ما يهوى تذمر.

إذا مسه الشر كان من ضعف صبره جزوعًا، وإذا مسه الخير كان من ضعف إرادته عن مقاومة شحه منوعًا، فهو ضعيف هلوع.

ربما اضطرب لحدث طارئ يكرهه، وهو الذكي الألمعي، فغشي على بصره وبصيرته وسائر حواسه، فصار لا يميز بين الأضداد، ولا يفرق بين الصاد والضاد، واختلط عليه الحاسر والمسبل، والمدبر والمقبل، والقاعد والقائم، والصاحي والنائم، وجمع الثلاثتين تسعًا، والخمستين سبعًا.

وربما اضطرب لحدثٍ طارئ يحبه، ومفاجئ مسعد يفرحه، فحدث له مثل ما سبق، ولربما جن أو صرع.

أفلا يدل كل ذلك على أنه خلق من ضعف، وخلق ضعيفًا، وعلى أن عناصر الضعف لا تفارقه، وعلى أن جذور الضعف متغلغلة في أعماق جسده ونفسه؟

وتظهر في الإنسان حالات ضعفه إذا نقص عنه الغذاء ففقد قوة الحركة وقوة العمل وقوة التفكير، وإذا شعر أنه بحاجة إلى رغيف الخبز وشربة الماء. وإذا علم أنه ربما انسد من مسالك جسمه مسلك فهلك أو كاد، وربما تخثرت نقطة دم فيه فقتلته، أو انفجرت نقطة دم في دماغه فأهلكته، أو سدت ذرة تراب عرقًا أو مجرى من مجاري عروقه فأقضت مضجعه، أو جاءته سكتة قلب فصرعته.

وتظهر في الإنسان حالات ضعفه إذا نزل به المرض، أو حل به البلاء، أو فاجأته المصيبة، أو استبد به الهوى، أو استولت عليه الشهوة، أو تمكن منه سلطان الحب الآسر، والشغف القاهر، أو داهمته المزعجات، أو حلت به المؤلمات، أو هزه الخوف، أو اشتد به الطمع، أو تعرض لأحوال النسيان والخطأ، أو عجز عن الصمود تجاه الإكراه بقوة فوق قوته.

وحسب الإنسان ضعفًا أنه عرضة لأن ينسى بعد العلم، ويجن بعد العقل، ويمرض بعد كمال الصحة، ويشيخ ويهرم بعد الشباب، وأنه لا بد أن يموت بعد الحياة، فليعرف قدره، وليقف عند حده، وليعبد ربه، حتى يأتيه اليقين الذي هو الموت.

الإنسان ضعيف ومغرور بنفسه:

ومن العجيب في هذا الإنسان أنه ضعيف التكوين ويتجبر، مهين الأصل ويتكبر، وكم تقع الغشاوة على بصيرته فلا يرى ضعفه الدفين، وينسى أصله المهين، فإذا شعر بأنه قد ملك شيئًا من القوة استعلى بها، وسعى في الأرض ليفسد فيها، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.

ومعظم الناس يأخذهم الغرور بأنفسهم، متى لمسوا منها جانبًا من جوانب القوة، وينسون ما هم فيه من ضعف داخلٍ فيهم ومحيط بهم، وأن القوة التي يلتمسونها من أنفسهم محدودة في الزمان والمكان والكيفية والحال.

وسبب غروره بنفسه أنه مع ضعفه واسع الحيلة بما وهبه الله من فكر، فهو يستطيع بحيلته –ضمن قوته القليلة المحدودة المحاطة بالضعف الكثير- أن يستخدم قوى هائلة ضخمة، كامنة فيما خلق الله من أشياء في هذا الكون. وهذا ما يجعله ينسى ما هو فيه من ضعف، ويغتر بما لديه من حيلةٍ تعتمد على فكر ثاقب وفهم لخصائص الأشياء، ومعرفةٍ بكوامن القوة في الوجود، وقدرة على إدراك مفاتيح القوى، والوصول إلى استخدامها بأيسر القوى المادية التي يملكها.

وسبب غروره بنفسه أيضًا أنه مع شعوره بضعفه الجسدي أمام مخلوقات كثيرة من حوله، يدرك أنه بقوة حيلته يستطيع أن يطوع هذه المخلوقات لإرادته، ويستخدمها في مصالحه، ويسخرها لأغراضه، ويدرك أنه يستطيع بذكائه أن يسلط القوى على القوى، وأن يصل إلى مغامز القوى فيحركها على ما يريد. إنه يعلم أن قوته أضعف من الجبال والبحار والرياح، إلا أنه ما يزال يحتال بكل وسيلة لاستخدام قوى هذه الأشياء ذات القوى الكبيرة في مصالحه وأغراضه، ضمن نظام التسخير الرباني الذي فطرت عليه، إذ سخرها الله للإنسان، ومكنه من الانتفاع بها.

فمن المعلوم أن استخدام القوى الكبيرة الكمينة في الكون لا يحتاج إلى قوة جسدية كبيرة يبذلها الإنسان، ولكنه يحتاج إلى قوة كبيرة من الفهم، وسلسلة من التجارب والاختبارات، لكشف سلسلة الأسباب المؤثرة ببعضها، ومعرفة القوانين والسنن الربانية التي فطر الله الأشياء عليها، حتى يباشر الإنسان منها ما تتمكن قوته الجسدية من استخدامه، وهكذا يتسلسل الإنسان مع الأسباب، ويستخدم القوانين والسنن، حتى يفعل الأعاجيب في الكون.

وهذا ما يجعل الإنسان يغتر بنفسه، وينسى ربه، ويمشي في الأرض مرحًا مختالًا، ويزعم أنه ملك مفاتيح قوى الكون، ويقف عند ظواهر الأسباب، زاعمًا أن قواها من طبيعتها الذاتية، فيجحد من خلقها ووهبها طبائعها، وهو من ورائها يمدها بالبقاء، ويمسكها أن تزول وتعود إلى أصلها الغارق في بحر العدم.

لكن الله بحكمته العظيمة لا يدع الإنسان ينطلق بغروره دون أن ينزل به ما يوقظه من غفلته، ويشعره بأنه ضعيف عاجز، تقتله الحشرة، وتقعده الجرثومة التي لا يدركها الطرف، وتبكيه الحاجة، وتذله المصيبة، ويخضعه الألم، ويوهنه الخوف، ويستخفه الطمع، ويهوي به الهوى، ويقض مضجعه الحب. وهكذا تتقاذفه في حياته أحوال شتى، تكشف له أنه مخلوق ضعيف، مهما كان باستطاعته أن يسخر قوى هائلة في الكون من حوله، ولولا أن الإنسان تحيط به أمور كثيرة تشعره بعجزه وضعفه دائمًا، لعلا واستكبر، وطغى وتجبر، وادعى الربوبية، وعتا في الأرض ونشر فيها الفساد. لكن الأحداث تشعره بضعفه دائمًا، فتنكسر نفسه، وتلين قناته، وقد يرده شعوره هذا إلى الإيمان ب