موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(5- الإنسان أكثر شيء جدلًا)

موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(5- الإنسان أكثر شيء جدلًا)
228 0

الوصف

                                                               الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام
                                                                      5- الإنسان أكثر شيء جدلًا
                                            الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل التاسع: في الإنسان بوجه عام >>

5- الإنسان أكثر شيء جدلًا

وصف الله الإنسان بأنه أكثر شيء جدلًا، وهذا يدل على مبلغ قدرته على الحيلة الفكرية، التي تمكنه من أن يجادل بالحق أو بالباطل، ويكر ويفر ويراوغ في المجادلة.

قال الله تعالى في سورة (الكهف 18):

(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54)) .

فهذه الآية تدل على أن الله تبارك وتعالى قد صرف في القرآن الكريم لهداية الناس إلى الحق والخير من كل مثل، لئلا يدع لأي إنسان مهربًا جدليًّا ينسل منه إلى الباطل الذي يجد لديه هوى نفسه، إذ يحاور ويداور في جدالٍ هو فيه أقدر كائن خلقه الله.

فقوله تعالى في آخر الآية: (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) بمثابة التعليل لما جاء في صدرها. أي ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل لأن الإنسان أكثر شيء جدلًا.

صرفنا: أي بينا وأوضحنا. والتصريف هو التبيين، ويتضمن التصريف معنى التنويع بإيراد أنواع وأشكال مختلفة من وجوه البيان. فتصريف الرياح جعلها ضروبًا من أجناس، وتوجيهها.

من كل مثل: أي من كل حجة مماثلة فيما تقدمه لأصول الهداية التي هدى إليها القرآن. فمثل الشيء هو شبيهه ومساويه ومكافئه في صفته، أو في دلالته، أو في مقداره.

ولما كان الغرض من الإتيان بالحجج وضرب الأمثال تقديم صور فكرية مسلم بها، مماثلة ومساوية للصور الفكرية غير المسلم بها، للإقناع بصحتها، صح أن يطلق عليها أمثال. فمن سلم بمثل الشيء لزمه أن يسلم بالشيء نفسه، وبذلك تكون الحجة البينة.

ولإقامة الحجة على الناس وتقريب الحقائق إلى أذهانهم يضرب الله الأمثال لهم.

وكل صورة كلامية تقدم شبيهًا مساويًا ومكافئًا لما يراد بيانه أو تثبيته وتوكيده فهي مثل.

والداعي لتفسير المراد من المثل هنا بالحجة، كون الغاية من التصريف إقامة الحجة على الإنسان الذي هو أكثر شيء جدلًا، بالبيان الجدلي، والبيان الجدلي هو الحجة التي يقدمها صاحب البيان.

لماذا كان الإنسان أكثر شيء جدلًا؟

والسبب في كون الإنسان أكثر شيء جدلًا أن القدرات الفكرية التي زود الله الإنسان بها، قد مكنته من استخدام حيل كثيرة، تعتمد على الإظهار والإخفاء، والمراوغة والمخادعة بمكر عظيم، فهو بذلك قادر على أن يكون طويل النفس في المجادلة بالحق أو بالباطل. يضاف إلى ذلك قدرات النطق والتعبير التي زوده الخالق بها، والتي يستطيع بها تصريف كلامه في كل باب من أبواب القول بالحق أو بالباطل.

وحين تدفعه أهواؤه الجامحة وشهواته الجانحة إلى تجاوز دوائر الحق والعدل والخير والفضيلة، ويظل مع ذلك حريصًا على أن يظهر أمام الناس بمظهر الكمال، تتولد عنده الرغبة الشديدة بأن يثبت سلامة تصرفه، وصحة منهجه في الحياة، فيلجأ إلى خطة التزيين والتبرير بالباطل، فإذا وجد مخالفة أو معارضة لجأ إلى خطة الجدال، وفي الجدال يصنع ما يصنع المقاتل راغبًا بالانتصار على خصمه، لا حريصًا على الوصول إلى الحق بالمناظرة الشريفة العفيفة.

ولقد عرف الإنسان منذ نشأته الأولى المداورة والمحاورة في القول، ومرن على الجدال مهما اختلفت مستويات ثقافته؛ لأنه يرى في الجدال منفذًا ينفذ منه إلى إقناع الآخرين بالحق أو بالباطل، ليستجيبوا له أو ينصروه، وبذلك يتغلب على خصمه المخالف له.

وكثير من الناس يجادلون بالباطل وهم يعلمون أنهم مبطلون، ويرون الجدال بابًا ينفذون منه إلى تغطية باطلهم، وإلباسه ثوب الحق، وهؤلاء يحتاجون في جدالهم إلى الإمعان في الحيلة والمكر، وإخفاء ما يكشف باطلهم، وتزوير ما يظهر أنهم أصحاب حق، فيحشدون كل طاقاتهم في الجدال المشحون بالحيل المختلفة الفكرية والقولية؛ لإقناع الآخرين بأنهم أصحاب حق، حتى يفعلوا ما يشتهون من ظلم وعدوان، وهم يسترون أنفسهم بأثواب الاستقامة المزورة.

تاريخ الإنسان في الجدل:

ونلاحظ في تاريخ الإنسان أنه ما من رسول أرسله الله إلى قوم إلا جادلوه بالباطل جدالًا عنيفًا، دل على هذا قول الله تعالى في سورة (الكهف 18):

(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)) .

وقول الله تعالى في سورة (غافر 40):

(مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)) .

فدل هذا النص على أن كل أمة همت برسولهم ليأخذوه، وأن كل أمة جادلوا رسولهم بالباطل ليدحضوا به الحق.

وأخيرًا جادل مشركو العرب رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم في آيات الله البينات، وأصروا على كفرهم، وبالغوا في عنادهم، وفيهم يقول الله تعالى في سورة (الأنعام 6):

(وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (25)) .

كثرة جدل الإنسان في الكم والكيف:

أما الكثرة الجدلية التي يتمتع بها الإنسان فهي كثرة في الكم وكثرة في الكيف.

والكثرة في الكم يمثلها عرض الحجة الواحدة بعدد وفير من أساليب القول، والإنسان يفعل ذلك طمعًا بأن أسلوبًا كلاميًّا منها قد يؤثر فيمن يجادله.

والكثرة في الكيف يمثلها كثرة الأنواع والصور الفكرية التي يجادل الإنسان فيها، أو يستخدمها في جداله، ومن ذلك أن يجادل الإنسان فيما له به حجة، وفيما ليس له به حجة أو شبه حجة، أو رائحة دليل.

وقد يتمسك بما هو ظاهر الفساد والبطلان؛ لأن له هوى في ذلك، ويحاول بكل وسيلة جدلية أن يقلب الباطل حقًّا والحق باطلًا، وأن يتظاهر بأن الحق في جانبه، مع أنه لا دليل له إلا الكذب وزور القول.

قال الله تعالى في سورة (الحج 22):

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (3)) .

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)) .

فهذان النصان يدلان على أن من الناس من يتجاوز في جداله كل الحدود المقبولة عند العقلاء ولو على سبيل الشبهة، وهذه كثرة كيفية في الجدال لا نظير لها عند غير الإنسان.

ومن ذلك مجادلة عادٍ رسولهم هودًا عليه السلام، في أصنامهم التي يعبدونها من دون الله، قال الله تعالى في سورة (الأعراف 7):

(قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)) .

ومن ذلك أيضًا مجادلة منكري البعث بعد الموت، وجاحدي البعث بعد فناء الأجساد، شكًا بقدرة الخالق على إعادة الخلق، مع الاعتراف بأنه سبحانه قد بدأ الخلق اختراعًا وإبداعًا، ومع وضوح الدليل القاضي بأن الإعادة مثل البدء، بل الإعادة أهون في نظر الناس من البدء على غير مثال سبق. قال الله تعالى في سورة (يس 36):

(أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)) .

خصيم: أي كثير الخصومة والجدال بالباطل.

مبين: أي واضح الخصومة والجدال، أو قادر على تزيين كلامه ببيان من زخرف القول.

وقال الله تعالى في سورة (النحل 16):

(خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4)) .

وقال تعالى في سورة (مريم 19):

(وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَ لاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)) .

الباعث على الجدال بالباطل:

ومن البواعث للإنسان على الجدال بالباطل اتباعه أهواء نفسه وشهواتها، وإرادته تغطية ذلك بحجة كلامية مزورة، وقد يعلم في داخل نفسه بطلان ما يقول، وهذا الباعث النفسي قد كشف الله عنه بقوله في سورة (القيامة 75):

(بَلْ يُرِيدُ الإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)) .

أي يريد الإنسان الانطلاق الفاجر الواسع في الشهوات واتباع الأهواء، فينكر يوم القيامة، وينكر الجزاء، ويجعل قصة الحياة قاصرة على هذه الحياة الدنيا، ويجادل بالباطل.

جدال الإنسان ربه يوم القيامة:

ومن أغرب مظاهر الجدل عند الإنسان وأفحشها مجادلته ربه يوم القيامة، مع المكابرة في إنكار أقوى الأدلة التي تتوجه ضده.

فالمشركون يعرضون على ربهم يوم الحساب، فيحاسبهم على شركهم، ويقول لهم: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟

فيحلفون له أنهم ما كانوا مشركين، ويجادلونه لإنقاذ أنفسهم بالكذب، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق أيديهم وأرجلهم فتشهد عليه