موسوعةالأخلاق الإسلامية-الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام(4- الإنسان قابل للعلم وصنعة الكتابة)
الوصف
الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية: في الإنسان بوجه عام
4- الإنسان قابل للعلم وصنعة الكتابة
الباب الثاني: الإنسان في دائرة الدلالات القرآنية >> الفصل التاسع: في الإنسان بوجه عام >>
4- الإنسان قابل للعلم وصنعة الكتابة
امتن الله على الإنسان بما فطره عليه من قابلية للعلم، وقابليةٍ للكتابة بالقلم وسيلةً لتحصيل المعارف والعلوم.
فأول ما بدئ به من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دعوة إلى القراءة، ودعوة إلى العلم، وامتنانًا من الله على الإنسان بما فطر فيه من قابلية للعلم وصنعة الكتابة بالقلم التي يتعلم بها كثيرًا من العلوم، وذلك في قول الله تعالى لرسوله في سورة (العلق 96):
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) .
ففي هذا النص نلاحظ الدلالة على ثلاثة أمور:
الأول:
الامتنان بما فطر الله الإنسان عليه من قابلية للعلم وصنعة الكتابة.
الثاني:
إعلان أن رسالة الإسلام تعتمد في منطلقاتها الأولى على القراءة والكتابة وتحصيل العلم.
الثالث:
تمجيد العلم وتمجيد وسائله الكبرى.
ومعلوم أن الرسالات الربانية كلها قد أنزلها الله للناس لأن الإنسان مخلوق قابل للعلم ومعرفة التكاليف الشرعية، وإدراك النصائح والوصايا الربانية، ولولا أن لديه الاستعداد لذلك ما أنزل الله له رسالة أساسها العلم ووسيلتها التعلم.
ومن تمجيد وسائل العلم أن يقسم الله بالقلم وبما يكتبه الكاتبون، وذلك في قوله تعالى في سورة (القلم 68):
(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)) .
وقصة خلق آدم تتضمن دلالات رائعة على القابلية العظيمة للعلم التي فطر الله الإنسان عليها. وذلك أنه لما قضت حكمة الله تعالى بأن يخلق هذا الإنسان من طين، قال للملائكة: إني خالق بشرًا من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. هنا رأت الملائكة أن تسأل ربها عن هذا المخلوق المنتظر فقالوا كما جاء في المأثور عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضًا. فقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فأجابهم الله تبارك وتعالى بقوله: إني أعلم ما لا تعلمون.
وأعطى الله آدم وهو الإنسان الأول استعدادًا عظيمًا لتحصيل المعارف والعلوم، وقدرة على استنباطها واستنتاجها، والتوصل إلى معرفة خصائص الأشياء وصفاتها عن طريق دراسة ظواهرها وآثارها، وعلمه الأسماء كلها، ويدخل في الأسماء صفات الأشياء وخصائصها.
ثم أراد الله تبارك وتعالى أن يثبت للملائكة امتياز هذا الإنسان بميزة المعرفة، فأقام مباراة علمية بين الملائكة مجتمعين وبين الإنسان، وكانت مادة المباراة أن عرض مخلوقاته على الملائكة وقال لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء؟
فعجزت الملائكة وقالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. فأعلنوا بذلك اعترافهم بعجزهم، واعترافهم بعلمه المحيط بكل شيء، وبحكمته في الخلق.
فلما اعترفوا بعجزهم قال الله لآدم: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فانطلق آدم يتدفق علمًا ومعرفة بالأشياء وخصائصها وصفاتها، عندئذ قال الله للملائكة: (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) .
ثم أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، احترامًا لعلمه وخصائصه التكوينية المتصلة بالمعرفة.
هذه القصة القرآنية تكشف أن الإنسان يمتاز بنسبة عالية جدًّا من قابلية تحصيل المعارف والعلوم واستنباطها، بما أودع الله فيه من استعدادات فكرية ذهنية كبيرة. ونستطيع أن نفهم من مضامينها أن الإنسان أكثر استعدادًا لاستنباط المعارف واستنتاجها من الجن ومن الملائكة، وذلك بما فطره الله عليه من خصائص فكرية عالية. وما أعطاه الله لآدم قد انتقل إلى ذريته بالوراثة، ولكن على سبيل انتقال الاستعداد الفطري، لا انتقال المعارف نفسها التي علمها الله لآدم، فمفردات المعارف لا تنتقل بالوراثة، وإنما يورث الاستعداد الفطري فقط. وحينما يولد الإنسان يكون فكره صفحة بيضاء خالية من أية معرفة، هذا ما يثبته الواقع المشاهد، ويدل عليه النص القرآني، إذ يقول الله تعالى في سورة (النحل 16):
(وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)) .
فقول الله تعالى: (وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا) يتضمن إعلانًا عن نقطة بدء المعارف التي يكتسبها الإنسان في حياته، بعد أن كان خاليًا من أية معرفة، وعندها يبدأ شريط تسجيل المعارف يتحرك، أي بعد أن يستهل الولد صارخًا عقب الولادة.
وقول الله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ) ينبه على أدوات المعرفة التي زود الخالق بها الإنسان، وأهمها السمع والبصر والفؤاد.
أما السمع والبصر فهما أهم وسائل الإدراك الحسي، وأما الفؤاد فهو مركز القوة التي تستقر فيها المعارف المكتسبة، ومما لا شك فيه أن الله تعالى لم يمنح الإنسان أدوات المعرفة إلا من أجل أن يستعملها فيما خلقت له.
وأما قول الله تعالى في آخر الآية: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فهو إعلان عن الغاية من منحه أدوات المعرفة، ومنحه قابلية العلم والقدرة على التعلم، وتفضيله بذلك على كثير ممن خلق. فالغاية المرجوة منه عن طريق اختياره الحر الذي هو فيه ممتحن أن يشكر ربه على ما منحه وكرمه به.
وجاء الإسلام فحث الإنسان على التعلم والتعليم، وحدد مسؤوليته تجاه ما كرمه به خالقه، ودفعه إلى التعرف على حقائق الأمور، وصفات الأشياء وخصائصها، ليتابع في حياته البحث العلمي السليم، وليكتشف من أسرار هذا الكون ما يدل على عظمة خالقه، وعلى عظيم صفاته وجليل حكمته، وليتوصل إلى معرفة ما يجب عليه نحوه من طاعة وعبادة وشكر وليحسن الانتفاع مما بث الله في هذا الكون من قوى وخيرات، على الوجه الذي أذن للناس به إذنًا شرعيًّا، دون إفساد في الأرض، أو إضرار بالأنفس، أو عدوان وظلم.
أما الذين يعطلون أدوات المعرفة التي منحهم الله إياها فلا يستعملونها فيما خلقت له، أو لا ينتفعون منها، أو يستخدمونها في حدود ظواهر الحياة الدنيا فقط، ثم لا ينتقلون من ذلك إلى معرفة خالقهم ورازقهم ومفيض النعم الظاهرة والباطنة عليهم، ولا يؤمنون به ولا يشكرونه ولا يعبدونه، فهؤلاء مجرمون ظالمون في حق أنفسهم عليهم، وفي حق الله عليهم، وأحر بهم أن يقال عنهم: صم بكم عمي فهم لا يعقلون؛ لأنهم بتعطيلهم أدوات المعرفة التي منحهم الله إياها هم وفاقدوها سواء، وأولئك هم شر الدواب عند الله. قال الله تعالى في سورة (الأنفال 8):
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22)) .
ولما كان الإنسان مسؤولًا عن استخدام أدوات المعرفة التي منحه الله إياها فيما خلقت له، حكم الله بالعذاب يوم القيامة على الذين يعطلونها فلا يتدبرون بها آيات الله، ولا يهتدون بها إلى الإيمان. دل على هذا قول الله تعالى في سورة (الأعراف 7):
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)) .
فهؤلاء لما عطلوا قلوبهم عن الفقه بما يجب عليهم أن يفقهوه، وعطلوا أعينهم عن رؤية آيات الله في كونه والانتفاع منها في معرفة صفات الله، وعطلوا آذانهم عن استماع آيات الله في كتابه والانتفاع منها في الاهتداء إلى الحق، واستماع غير ذلك من كل ما يهدي إلى سبيل الله، كانوا أضل من الأنعام، وكانوا أهل جهنم.
وسر كونهم أضل من الأنعام في منظار الحقيقة أن لديهم أدوات المعرفة فعطلوها عما خلقت له. أما الأنعام فإنها لم تتمتع بمنحة الأداة الكبرى للمعرفة، وهي القوة المفكرة المدركة القادرة على فهم الأمور وفقهها، لذلك فهي غير مسؤولة عن شيء ليس لديها أداته.
ولما وضع الله الإنسان المكلف موضع المسؤولية عن كل تصرف من تصرفاته الإرادية نبه على أن المناط الأول للمسؤولية الملقاة عليه هي أدوات المعرفة التي لديه. ومن أجل ذلك كان اتباعه في الحياة ما ليس له به علم يعرض فيه هذه الأدوات للسؤال بين يدي الله للمناقشة والحساب، وهو ما دل عليه قول الله تعالى في سورة (الإسراء 17):
(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36)) .
أي: لا تتبع أيها الإنسان في أي أمر من أمور حياتك ما ليس لك به علم، فإن لديك من أدوات المعرفة ما تستطيع به التبصر في الأمور؛ فإذا أنت اتبعت ما ليس لك به علم فقد عطلت أدوات المعرفة التي لديك، لذلك فلا بد أن تكون هذه الأدوات مسؤولة عن تأدية وظائفها الفطرية، أي لا بد أن تكون أنت المسؤول أيها الإنسان؛ لأن هذه الأدوات جزء من كيانك، وعملها أو تقصيرها وإهمالها تابع لإرادتك.
ونستطيع أن نتصور مشهد الإنسان الذي عطل أدوات المعرفة التي وهبه الله إياها، إذ يؤتى به يوم القيامة، ويتوجه السؤال له عن طريق أدوات المعرفة التي لديه.
فيقال لسمعه: ألم تأتك أنباء المرسلين؟ ألم تسمع كلام الله؟ ألم ترشدك النصائح والنذر؟ فكيف اتبعت ما ليس لك به علم من وساوس الشياطين؟!
ويقال لبصره: ألم تشهد آيات الله في خلق الإنسان؟ وآياته في خلق الأرض؟ وآياته في خلق السماء؟ وآياته في تدبير خلقه وتصريف مقاديره؟ فكيف اتبعت ما ليس لك به علم من مغريات الحياة الدنيا وزخرف أقوال المضلين؟!
ويقال لفؤاده: ألم تستنتج مما لديك من معارف ما يكفيك للإيمان ب